من السؤال إلى
التسليم
في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة )
للزجال المبدع عبدالحكيم خيي
-
تمهيد :
في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف الشاعر
الزجال عبدالحكيم خيي إبداعه اللهجي لممارسة حقه في فضح حالات النشاز الاجتماعي من
أجل التعبير عن حقه في العيش الكريم له و لأمثاله ممن انكوتْ قلوبهم و جيوبهم بصهد
فعل فاعل مفسدٍ مجهول و معلوم في نفس الآن .
و قد جنّد في تثبيت رؤيته الفنية
الرافضة مجموعة من الزجليات البعيدة في عمقها الدلالي . و قد ضمّها في ديوان
بخمسين صرخة بدأتْ بصرخة ( اعْلاشْ ) لتنتهي بنجوى ( نتْرجّاكْ ) . أي أنها بدأتْ بالسؤال
المفتوح على الحيرة ، و انتهت بالتسليم إلى الخالق و القادر و الرحيم .
من السؤال إلى التسليم . هو ذا مسار
هذا الديوان الموسوم بعنوان مفعم بالإثارة و الانزياح ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) .
رحلةٌ فنية تمسك بقرار الفن من أجل حياة كريمة في إيمان كبير بدور الكلمة في
التغيير الاجتماعي . و في أضعف الإيمان ، هي رحلة تستفز دينامية التغيير في الروح
البشرية الغارقة في الصمت المبيّت .
-
في ثنايا العنوان :
اختار الشاعر عبدالحكيم لديوانه عتبة
فاتحة لعالمه الزجلي الخاص ، صاغها في إطار عبارة دالة ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) .
و هي عبارة نحولها إلى النحو العربي العالِم فنجدها مبتدأً لخبر محذوف تقديره (
هذه خيوط القمر ) . و لكن التعبير اللهجي أمدّ الدلالة بكثير من الظلال المعنوية و
الدلالية الباعثة على السؤال المفتوح جدا . و العنوان المتوّج للديوان هو نفسه عنوان
القصيدة رقم 23 ، و فيهما ، أي في الديوان و في القصيدة ، تمارس ( الْڭَمْرَة ) وظيفتها
الإشعاعية داخل سياق معتم و مغلّف بطبقات من قشور الفساد ، و داخل سياق فارغ من
الصوت و الهمس و الصراخ و الشجب و التنديد ... قال الزجال عبدالحكيم :
ڭَمْرَة دلات خيوطها
اخيوط مفتولة بالجوهر
منقوشة بحرف غالي
محفوظ بالجاه العالي
و نحن ندرك باعتبارنا قراء نمتلك مع
الشاعر المشترك الثقافي :
· أن
القمر مذكر لا مؤنث
· أن
القمر ليس له خيوط
· أن
القمر يمتلك حضوره القوي ليلا
· أن
القمر ظاهرة نورانية في مخيالنا
· أن
القمر ارتبط في أنساقنا الذهنية بالمرأة
· أنه
ارتبط أيضا بالغزل
· ...
و هذه التداعيات كلها حاضرة في نسق
الشاعر الذهني إلا أن بعضها يلغي البعض الآخر ، لأن سياق المقال يؤكد على الدور
الإيحائي بالدرجة الأولى . و لم يتحدث الشاعر عن ضوء القمر أو إشعاعه و إنما تحدث
عن خيوط القمر و بالتأنيث ( الْڭَمْرَة ) بدلالة أقوى من التذكير . فالأنوثة هنا
مصدر حياة : قال الزجال (ڭَمْرَة ادّلاتْ خيوطها – تلحف الكون بنورها – تبسم فم
الزمان ببهاها ) .
و حيث إن الماحول معتم أعلنت عن إعتامه
أغلب قصائد الديوان ، فإن الأمل باقٍ و قائمٌ لتبديد بعض هذا الإعتام ، ما دامت في
الذات حشاشة روح ، عبّر عنها الزجال الشاعر بالمعادل النفسي و هو مفردة (الْڭَمْرَة
) ، و من ثمة فالقمر ينزاح عن وجوده الفلكي إلى وجود وظيفي رمزي يدل في عليائه على
انتصار النور . قال الزجال عبدالحكيم :
من ڭَدام خيوط الْڭَمْرَة
ضباب لغدر غبر
و بانت النجوم تلالي
-
تجاوز المرآتية :
في تصوير الفساد لا يذهب الزجال عبدالحكيم
مذهب المرآتية التسجيلية الواقفة عند حدود النسخ لمشاهد الواقع و تكرارها في بلادة
مقيتة لا تقدم و لا تؤخر في مشروع الفن الشخصي لهذا الزجال شيئا . فهذه المرآتية
إمكانٌ متوفر لكل ناظر للواقع و لكل ناقد له . إن الزجال عبدالحكيم يذهب في ذلك
مذهب التصوير الفني الممتطي صهوات الانزياح اللهجي في رؤية فنية تحاول الاجتهاد في الصوغِ الزجلي
حتى يأتي ديوانه قيمة مضافة في مجال الزجل و في ساحاته ، لا تكراراً أو تركيماً
لبضاعة محسوبة على الفن و ما هي بالفن .
و هذا التصوير الفني اللهجي ليس كلاما
جزافيا يقول ليسجل ثقافة القول البرناسية ، و إنما يقول ليستفز المتلقي في دعته و
استرخائه ، و من ثمة يحوّله من سلبيته التاريخية و يدفعه دفعاً إلى معانقة روح
السؤال و المساءلة باعتبارهما أول خطوة لبدء مشروع التغيير .
-
انزياح المساءلة :
من أمثلة التصوير الفني الراكب صهوة
المساءلة نذكر على سبيل التقريب :
القصيدة 1 – اعْلاشْ
اعْلاش بالهم و الغم
فاضت كيسان لعمر
و بلسان الحية
الفم يسوك و يعكر
و بمرود الغدر
العين تكحل الشفر
ص 6 من الديوان
نسجل أولا أن أداة الاستفهام اللهجية (
اعْلاشْ ) تتكرر سبع مرات في القصيدة التي تتألف من أربعة و أربعين سطرا هي في ظل
الوزن الزجلي ( لمْبيّتْ ) اثنان و عشرون بيتا . بمعنى أن معدل التوارد لمقولة (
اعْلاشْ ) معدل مرتفع بارتفاع منسوب الغضب ، و بالتالي ارتفاع منسوب السؤال . لأن
منسوب الفساد و ( الحڭرة ) زاد عن حدّه .
و أرى بأن أجلّ وصف لهذا التجاوز
المقيت هو قول الزجال عبدالحكيم ( فاضت كيسان لعمر ) . ففي العبارة ما يدل على
بلوغ السيل زباه ، في تصوير شعبي يمتح مادته من مقولة الكأس التي اجتهد فيها
الوجدان المغربي و في تصوير حالات الفيضان بتحويل الوصف من مقولة الماء إلى مقولة
العمر ، بمشترك بلاغي و دلالي هو انسياب كل من الماء و العمر في اتجاه النهايات و
قابليتهما معاً للوعاء . و الكأس هنا تخرج من وجودها المتشيء إلى وجود زئبقي يشي
بالاحتواء كما يشي بالفيضان أي الخروج عن الحد الممكن .
من هنا بلاغة الانزياح في قدرة الزجال
الفنية على تطويع مفردة العمر و تحويلها إلى مادة سائلة متدفقة خارج الممكن لتعبر
عن دلالات أعمق لا ترتبط بالمحتوِي و المحتوَى بقدر ما تعبّر عن حالة نفسية تكاد
تتاخم مفردات اليأس و القنوط و التدمر .
و هنا بالذات ندرك قوة التعبير اللهجي
في سيمياء التركيب في غير قصد ، فالشاعر لا يبني زجلياته داخل هذا الوعي السيميائي
، فهو ، أي الشاعر ، في حالة انبثاق . و ما يترتب عن هذا الانبثاق من تخريجات هي
من صميم النقد و القراءة و التأويل .
نجد الخطاطة التالية فارضة نفسها
كتأويل يمارس حضوره الفني عبر ما يلي :
- الكأس
: مقولة مادية من زجاج و أسطوانية الشكل و هي
أداة من أدوات المطبخ توظف لأغراض الشرب و الزينة ...
- العمر : مقولة زئبقية لا تقاس
بالحيز المادي و تقاس بالحيز الزمني و ترتبط بصيروة و سيرورة الإنسان من المهد إلى
اللحد بحساب السنوات ...
- التركيب الدلالي : لا يلتقي هذان
المؤشران السيميائيان إلا خارج مجال الحقيقة ، و أي تضام بينهما سيثير السؤال حول
المعنى و فائض المعنى . من هنا التقاء العنصرين داخل المجاز ، أي داخل البلاغة و
بتعبير آخر ، داخل المخيال الذي يبنيه و يثريه الانزياح .
استطاع الزجال عبدالحكيم أن يحول التوتر الدلالي بين الكأس \ المادة ، و
العمر \ الزمن إلى انسجام لا يجد مصداقيته الفنية إلا في دوائر التأويل الواسعة . هكذا تخرج العبارة ( فاضت كيسان العمر ) من
حالة التشيؤ الدالة على السائل \ الماء إلى حالة التذمّر .
-
زجل المفارقة :
لا يقف الزجال عبدالحكيم عند حدود المفارقة ليسجلها في عبور سريع بقدر ما
يرسمها و يسطر أسفلها سطرا غليظا باعتبارها واقعا مفروضا يستحق المساءلة الحارقة و
الواعية بالتناقض .
اعْلاش الدودة بنت الدود
تصنع الحرير الحر
و هي لباسها عريان
ما خادتْ منو اشْبر
و قد لجأ الزجال إلى هذه المفارقة ، هنا و في سياقات أخرى كثيرة لإيمانه
أنها قادرة على إقامة عالم جديد متخيّل على أنقاض عالم الواقع المعيش و المهدوم في
وعي المبدع . و لأنها ثانيا صياغة لغوية قائمة
على التناقض بين معنىً ظاهرٍ و آخر خفيّ . و قد امتطاها الزجال عبدالحكيم
باعتبارها تعبيرا لغويا بليغا يهدف إِلى اسـتثارة القـارئ وتحفيـز ذهنـه .
لهذا اختار الزجال صورة الدودة
للتعبير عن حالة المفارقة بخلاف المغني عبدالهادي بلخياط الذي أدرجها في
سياق التواضع . و عبدالحكيم هنا أبلغ لأنه لا يتغنى فقط بل يشجب و يدين حالة
متناقضة و يضعها في قفص السؤال مادامت قد قتلتها البداهة و الألفة و لامبالاة
الناس . فالدودة التي تصنع الحرير لا تلبسه ، و هذه صورة مفردة أعتبرها شجرة تخفي
غابة من المفارقات ... و بالتالي فقدرها العراء رغم كونها مصدرا للدثار و الغطاء .
و هنا تخرج المفارقة من تسجيل التناقض إلى الوخز الأسود لحال أوشك أن يصبح طبيعيا
و عاديا و حريا ألا يحرك في الناس نقدا أو تذمرا أو حتى مساءلة بسيطة .
هكذا فالزجل في عرف الشاعر عبدالحكيم يتجاوز التصوير إلى التصوير الفني
البليغ و المتسائل إلى الانزياحات الدلالية الموغلة في العمق إلى المفارقة الفاضحة
للتناقضات المتغولة في المشهد الإنساني عامّة .
-
تيمات الديوان :
لا يهمنا في هذا المنبر الإشادة بقولنا إن الزجال عبدالحكيم طرح في ديوانه
مجموعة من القضايا مثل الوطنية و الوعي الديني و الاجتماعي و الفلكلوري و الحقوقي
و مواضيع العشق و تراث البداوة و المناجاة و الحكمة و النصيحة و سؤال الكينونة و
الاخلاقيات و الحرية و الغربة و الخيانة و فن الكتبة و ... في زخم غزير من
المواضيع .
و لا يهمنا رصدها تباعا الواحدة بعد الأخرى ، فهذا مبحث خاص لا نصيب فيه
إصابات أحسن من المتخصصين فيه من أهل علم ذلك . و حسبنا هنا أن نقول إن الزجال
عبدالحكيم و هو يرصد كل هذا الزخم من القضايا يمتلك بوصلة فنية لا تمر على الماحول
المكتوي مرور الكرام . يسجل وقفته المتأملة و الناقدة و الطارحة للبديل الجمالي
الذي لا يكتفي بمزالق التشخيص و يعبرها إلى ضفاف التعبير الفني و اللهجي المدين و
الشاجب و المتمرد على تغول الفساد .
و يهمنا أن الزجال عبدالحكيم لا يعيش في الأبراج العاجية البعيدة عن قضايا
الناس . و من هنا فهو يتبنى الزجل المعانق للوجدان المغربي . يسائله ويحلله و
يقوّمه بعد أن ينتقده و و يشجبه ويرفضه ...
·
في فن المساءلة :
و علاش ضو الشمس
كمم وجهو و تغنبر
·
في فن الوطنية :
آها على بلادي آها
ما بغيتها تقاسي لهموم
نعشق ترابها و هواها
قلبي متولع بها مغروم
·
في فن التدين :
هي صلاة لفجر مولاة الهمة
كملات سعدي ضوّات ايامي
·
في فن الاخلاقيات :
الصدق و الكدوب سارو محاورين
على غرايبهم حروفي منظومة
·
في فن الحرية :
ترجيتك لله يا الطير الحر
علمني نطير كيف الطيور
·
في فن السخرية :
العود البركي مشا للحرت بلجامو
جر المحرات بسكتو
و التمون ف حزامو
العصا من وراه
و الدنابة قدامو
·
فن الغربة :
حياتي عداب عايش غريب
شعر راسي كساه الشيب
و غدر الزمان ف وجهي بادي
سوالف همي مفتولة بسبيب
و القائمة هنا طويلة لا ينفع معها حصر أو تسييج . و لقد اكتفينا بما يمثل
لا بما يحصر لأننا نكتفي بالإشارة التي تسود على العبارة .
و الشاعر الزجال عبدالحكيم لا يرضى في هذا المقام بالعرض . أي أن ذائقته
أكبر من أن تقف عند عرض الظواهر و القضايا و كأنه عالمٌ يجرد حصيلة التشخيص الذي
لا يقدم في شأو التغيير شيئا ذا بال . و لكن الزجال احتار أن يشخص و يصف و
يتجاوزهما إلى الكشف عن الخلل في أسلوب زجلي لهجي مبدع و فنان يرتقي بالزجل إلى
مقامات الكشف العارف .
من ذلك :
· طرحه لمقولة المساءلة بكل الحمولة
الاستفهامية و تجاوزها الى الحمولة الاستنكارية ثم المتجاوزة و الرافضة عبر مواقف
نقدية فاضحة تتغيّى التغيير أكثر من غايات البكاء و التشخيص الخاوي . واضعة في محك
السؤال كلا من الفرد و الجماعة و الكينونة و المفارقة و إدانة المعلوم و المجهول .
· إغناؤه النظم بألوان الغيرة
الوطنية حتى يتأتي للذات و للأخر مشخصا في المتلقي تذوق الزجل في تساميه على الأنا
الضاغطة و انفتاحها على الجماعة الأكثر مصداقية
· ندرة الموضوع في حديثه عن صلاة
الفجر . و هذا لعمري مبحث زجلي قلّ من طارحه الشجن . و هذا يحسب للشاعر و يدخل في تميزه و فرادته .
· لا يتطرق الزجال عبدالحكيم لموضوع الاخلاقيات من باب العرض المسطح ، بل يختار لذلك مدخلا ذكيا يرتبط بالوجدان المغربي ، فيصوغه صياغة تراثية ترتبط بفن الحلقة . قال :
بسم الكريم نبداو يا السامعين
من قصة جوج نستافدو معلومة
الصدق و لكدوب سارو محاورين
على غرايبهم حروفي منظومة ...
و هنا يكمن ذكاء المبدع و هو يصب القضية في قالب ممتع و مستثير
لذكاء المتلقي هو أقرب إلى المسكوكة المتداولة بين الناس في الأدب الشعبي و خاصة في
فن الحلقة . و هنا يتم نسج الزجل في فن الحكي بأبطال خارقين لا ينتمون للواقع بقدر
ما ينتمون لعالم التجريد .
-
رِهانٌ وزني :
راهن الزجال عبدالحكيم من منطلق اختيار فنيّ على وزن زجلي موسوم بالقوة
البنائية و الإيقاعية ، و يتعلق الأمر بصوغه جلّ زجلياته إن لم نقل كلّ زجلياته في
ميزان ( المبيّتْ ) . و هو في هذا يخلص لنسق التشطير القديم و التراثي عبر آلية ( لغْطا ؤ لفْراشْ ) .
و أعتبر هذا الاختيار نوعا من الموقف الفني يريد به الزجال أن يقول
للزجالين : الأمر في بناء القصيدة داخل اللهجة ليس أمرا يسيرا و لا أمرا عابرا
يتيح لمن هبّ و دبّ أن يقول فيه نثرا دارجا لا ضابط له و لا قواعد توجّهه . الأمر
في الزجل أكبر من ذلك و أجلّ و أصعب في مقارنته بالقصيدة داخل اللغة العربية
العالمة لأنها واضحة الضوابط و القواعد و متّفق عليها . أما في الزجل فالأمر محتلف
جدا إلى درجة الإشكال .
اختار الزجال عبدالحكيم وزن ( المبيّتْ ) اختيارا واعياً نستفيد منه معه
بما يلي :
· المْبيّتْ يذكرنا بأصالة البيت
الشعري الخليلي بما يفيد أن الشاعر أخلص لنسق إيقاعي ماضوي و تراثي و قوي الحضور
· البناء داخل إيقاع ( لمبيّتْ )
بناء موجب لكثير من البراعة التي لا تتأتّى إلا لمن خبر العمود الخليلي خبرة معينة
، و ذلك لأن البناء داخل هذا الوزن هو مغامرة موسيقية غير مأمونة العواقب إلا على
من أوتي فصل الخطاب
· حرص الزجال على التشطير بين (
الغطا ) و ( الفراش ) هو حرص على موسقة الزجل و الذهاب بأذن المتلقي مذهبا جماليا
يشد لحمة الجمالية شدّاً قويا و حريريا في نفس الآن
·
هذا البناء الإيقاعي يتيح للزجليات قابلية الغناء
· و هو البناء الذي يقربها من فن
الملحون و يهبها مصداقية الإنشاد بقوة
لهذا و أنت تتجول داخل ( اخْيوط الْڭَمْرَة ) ستجد أذنك مشدودة إلى
الموسيقى التي تحترم ذائقتك و لا تزج بها في أتون الاضطرابات اللاوزنية . و بالتالي
ستكتشف كم هو صعب أن تأتي بالقوافي و الأروية المتناغمة و الموحدة في هذا الكم من
القصائد ، بما يفيد ثراء القاموس اللهجي عند الزجال عبدالحكيم ، و أنه لا تغلبه في
بيان أو بناء الإيقاع مفردة من هنا أو من هناك ، في غير تعسف أو ليٍّ لأعناق
الكلمات و الضغط عليها حتى تستجيب لرغبة الزجال المتكلم .
و يفيدنا أيضا أن لغة ( المرڭَد ) حاضرة و مسعفة و قد أمدّت الشاعر بما
يناسب المقامات من قول فنيّ مسؤول و ناضج و لا نحس فيه أبداً قسرا أو ضغطا مهما
كان .
و قد جربت مجموعة من الزجليات داخل هذا الديوان على مستوى الغناء فوجدت
أغلبها منسابا انسيابا جميلا و رقيقا و سهلا و أنا أحاول الغناء ، و قد نجحت في
ذلك أيما نجاح و أنا أشنف مسامعي بلذيذ النظم المتأتي من قدرة الزجال عبدالحكيم
على الصوغ اللهجي الراقي .
-
خاتمة :
لا ننتهي من بحر الفاضل عبدالحكيم الزجلي إلا لنعشق الدخول في غماره مرة
ثانية . فالديوان من تلكم الفصيلة الإبداعية التي لا نشبع من استلهامها في أي لحظة
نعود لمعاينته أو لقراءته ، نظرا لما يحمله في ذاته من قدرة على التجدد كلما تغير
سياق حال القراءة و ظروفها أو إكراهاتها . من هنا قولنا إن الزجال عبدالحكيم ليس
من النوع الذي يبتغي تركيماً لفن القول بقدر ما هو من النوع الذي يقدم عملا فنيا
مسؤولا و ناضجا و مُعلّما في نفس الآن . فهو يقدّم دروسا جيدة في فن البناء اللهجي
للعبارة الزجلية ، و يقدم بناء انزياحيا بليغا و يقدم أيضا و أساساً إيقاعا ثابتا
و متغيرا في نفس الآن . و هو الإيقاع الراكب صهوة نظم ( المبيّتْ ) الذكي و القادر
على احتضان الحرف و الكلمة و العبارة و الانزياح في تلوينات موسيقية تتسم بمكر
السهولة و تنضح بعمق الصعوبة . و هنا أقدم تحياتي العاليات للزجال عبدالحكيم على
اجتهاده النوعي في الذود عن حمى الزجل في عهد موبوء بالرداءات التي يُصفّق لها في
المؤسسات و في غير المؤسسات .