الثلاثاء، 13 يونيو 2023

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

 


من السؤال إلى التسليم

في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة )

للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

-        تمهيد :

في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف الشاعر الزجال عبدالحكيم خيي إبداعه اللهجي لممارسة حقه في فضح حالات النشاز الاجتماعي من أجل التعبير عن حقه في العيش الكريم له و لأمثاله ممن انكوتْ قلوبهم و جيوبهم بصهد فعل فاعل مفسدٍ مجهول و معلوم في نفس الآن .

و قد جنّد في تثبيت رؤيته الفنية الرافضة مجموعة من الزجليات البعيدة في عمقها الدلالي . و قد ضمّها في ديوان بخمسين صرخة بدأتْ بصرخة ( اعْلاشْ ) لتنتهي بنجوى ( نتْرجّاكْ ) . أي أنها بدأتْ بالسؤال المفتوح على الحيرة ، و انتهت بالتسليم إلى الخالق و القادر و الرحيم .

من السؤال إلى التسليم . هو ذا مسار هذا الديوان الموسوم بعنوان مفعم بالإثارة و الانزياح ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) . رحلةٌ فنية تمسك بقرار الفن من أجل حياة كريمة في إيمان كبير بدور الكلمة في التغيير الاجتماعي . و في أضعف الإيمان ، هي رحلة تستفز دينامية التغيير في الروح البشرية الغارقة في الصمت المبيّت .

-        في ثنايا العنوان :

اختار الشاعر عبدالحكيم لديوانه عتبة فاتحة لعالمه الزجلي الخاص ، صاغها في إطار عبارة دالة ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) . و هي عبارة نحولها إلى النحو العربي العالِم فنجدها مبتدأً لخبر محذوف تقديره ( هذه خيوط القمر ) . و لكن التعبير اللهجي أمدّ الدلالة بكثير من الظلال المعنوية و الدلالية الباعثة على السؤال المفتوح جدا . و العنوان المتوّج للديوان هو نفسه عنوان القصيدة رقم 23 ، و فيهما ، أي في الديوان و في القصيدة ، تمارس ( الْڭَمْرَة ) وظيفتها الإشعاعية داخل سياق معتم و مغلّف بطبقات من قشور الفساد ، و داخل سياق فارغ من الصوت و الهمس و الصراخ و الشجب و التنديد ... قال الزجال عبدالحكيم :

ڭَمْرَة دلات خيوطها

اخيوط مفتولة بالجوهر

منقوشة بحرف غالي

محفوظ بالجاه العالي

و نحن ندرك باعتبارنا قراء نمتلك مع الشاعر المشترك الثقافي :

·      أن القمر مذكر لا مؤنث

·      أن القمر ليس له خيوط

·      أن القمر يمتلك حضوره القوي ليلا

·      أن القمر ظاهرة نورانية في مخيالنا

·      أن القمر ارتبط في أنساقنا الذهنية بالمرأة

·      أنه ارتبط أيضا بالغزل

·      ...

و هذه التداعيات كلها حاضرة في نسق الشاعر الذهني إلا أن بعضها يلغي البعض الآخر ، لأن سياق المقال يؤكد على الدور الإيحائي بالدرجة الأولى . و لم يتحدث الشاعر عن ضوء القمر أو إشعاعه و إنما تحدث عن خيوط القمر و بالتأنيث ( الْڭَمْرَة ) بدلالة أقوى من التذكير . فالأنوثة هنا مصدر حياة : قال الزجال (ڭَمْرَة ادّلاتْ خيوطها – تلحف الكون بنورها – تبسم فم الزمان ببهاها ) .

و حيث إن الماحول معتم أعلنت عن إعتامه أغلب قصائد الديوان ، فإن الأمل باقٍ و قائمٌ لتبديد بعض هذا الإعتام ، ما دامت في الذات حشاشة روح ، عبّر عنها الزجال الشاعر بالمعادل النفسي و هو مفردة (الْڭَمْرَة ) ، و من ثمة فالقمر ينزاح عن وجوده الفلكي إلى وجود وظيفي رمزي يدل في عليائه على انتصار النور . قال الزجال عبدالحكيم :

من ڭَدام خيوط الْڭَمْرَة

ضباب لغدر غبر

و بانت النجوم تلالي

-        تجاوز المرآتية :

في تصوير الفساد لا يذهب الزجال عبدالحكيم مذهب المرآتية التسجيلية الواقفة عند حدود النسخ لمشاهد الواقع و تكرارها في بلادة مقيتة لا تقدم و لا تؤخر في مشروع الفن الشخصي لهذا الزجال شيئا . فهذه المرآتية إمكانٌ متوفر لكل ناظر للواقع و لكل ناقد له . إن الزجال عبدالحكيم يذهب في ذلك مذهب التصوير الفني الممتطي صهوات الانزياح اللهجي  في رؤية فنية تحاول الاجتهاد في الصوغِ الزجلي حتى يأتي ديوانه قيمة مضافة في مجال الزجل و في ساحاته ، لا تكراراً أو تركيماً لبضاعة محسوبة على الفن و ما هي بالفن .

و هذا التصوير الفني اللهجي ليس كلاما جزافيا يقول ليسجل ثقافة القول البرناسية ، و إنما يقول ليستفز المتلقي في دعته و استرخائه ، و من ثمة يحوّله من سلبيته التاريخية و يدفعه دفعاً إلى معانقة روح السؤال و المساءلة باعتبارهما أول خطوة لبدء مشروع التغيير .

-        انزياح المساءلة :

من أمثلة التصوير الفني الراكب صهوة المساءلة نذكر على سبيل التقريب :

القصيدة 1 – اعْلاشْ

اعْلاش بالهم و الغم

فاضت كيسان لعمر

و بلسان الحية

الفم يسوك و يعكر

و بمرود الغدر

العين تكحل الشفر

ص 6 من الديوان

نسجل أولا أن أداة الاستفهام اللهجية ( اعْلاشْ ) تتكرر سبع مرات في القصيدة التي تتألف من أربعة و أربعين سطرا هي في ظل الوزن الزجلي ( لمْبيّتْ ) اثنان و عشرون بيتا . بمعنى أن معدل التوارد لمقولة ( اعْلاشْ ) معدل مرتفع بارتفاع منسوب الغضب ، و بالتالي ارتفاع منسوب السؤال . لأن منسوب الفساد و ( الحڭرة ) زاد عن حدّه .

و أرى بأن أجلّ وصف لهذا التجاوز المقيت هو قول الزجال عبدالحكيم ( فاضت كيسان لعمر ) . ففي العبارة ما يدل على بلوغ السيل زباه ، في تصوير شعبي يمتح مادته من مقولة الكأس التي اجتهد فيها الوجدان المغربي و في تصوير حالات الفيضان بتحويل الوصف من مقولة الماء إلى مقولة العمر ، بمشترك بلاغي و دلالي هو انسياب كل من الماء و العمر في اتجاه النهايات و قابليتهما معاً للوعاء . و الكأس هنا تخرج من وجودها المتشيء إلى وجود زئبقي يشي بالاحتواء كما يشي بالفيضان أي الخروج عن الحد الممكن .

من هنا بلاغة الانزياح في قدرة الزجال الفنية على تطويع مفردة العمر و تحويلها إلى مادة سائلة متدفقة خارج الممكن لتعبر عن دلالات أعمق لا ترتبط بالمحتوِي و المحتوَى بقدر ما تعبّر عن حالة نفسية تكاد تتاخم مفردات اليأس و القنوط و التدمر .

و هنا بالذات ندرك قوة التعبير اللهجي في سيمياء التركيب في غير قصد ، فالشاعر لا يبني زجلياته داخل هذا الوعي السيميائي ، فهو ، أي الشاعر ، في حالة انبثاق . و ما يترتب عن هذا الانبثاق من تخريجات هي من صميم النقد و القراءة و التأويل .

نجد الخطاطة التالية فارضة نفسها كتأويل يمارس حضوره الفني عبر ما يلي :

-  الكأس : مقولة مادية من زجاج و أسطوانية الشكل و هي أداة من أدوات المطبخ توظف لأغراض الشرب و الزينة ...

-  العمر : مقولة زئبقية لا تقاس بالحيز المادي و تقاس بالحيز الزمني و ترتبط بصيروة و سيرورة الإنسان من المهد إلى اللحد بحساب السنوات ...

-  التركيب الدلالي : لا يلتقي هذان المؤشران السيميائيان إلا خارج مجال الحقيقة ، و أي تضام بينهما سيثير السؤال حول المعنى و فائض المعنى . من هنا التقاء العنصرين داخل المجاز ، أي داخل البلاغة و بتعبير آخر ، داخل المخيال الذي يبنيه و يثريه الانزياح .

استطاع الزجال عبدالحكيم أن يحول التوتر الدلالي بين الكأس \ المادة ، و العمر \ الزمن إلى انسجام لا يجد مصداقيته الفنية إلا في دوائر التأويل الواسعة  . هكذا تخرج العبارة ( فاضت كيسان العمر ) من حالة التشيؤ الدالة على السائل \ الماء إلى حالة التذمّر .

-        زجل المفارقة :

لا يقف الزجال عبدالحكيم عند حدود المفارقة ليسجلها في عبور سريع بقدر ما يرسمها و يسطر أسفلها سطرا غليظا باعتبارها واقعا مفروضا يستحق المساءلة الحارقة و الواعية بالتناقض .

اعْلاش الدودة بنت الدود

تصنع الحرير الحر

و هي لباسها عريان

ما خادتْ منو اشْبر

و قد لجأ الزجال إلى هذه المفارقة ، هنا و في سياقات أخرى كثيرة لإيمانه أنها قادرة على إقامة عالم جديد متخيّل على أنقاض عالم الواقع المعيش و المهدوم في وعي المبدع . و لأنها ثانيا صياغة لغوية قائمة على التناقض بين معنىً ظاهرٍ و آخر خفيّ . و قد امتطاها الزجال عبدالحكيم باعتبارها تعبيرا لغويا بليغا يهدف إِلى اسـتثارة القـارئ وتحفيـز ذهنـه .

لهذا اختار الزجال صورة الدودة  للتعبير عن حالة المفارقة بخلاف المغني عبدالهادي بلخياط الذي أدرجها في سياق التواضع . و عبدالحكيم هنا أبلغ لأنه لا يتغنى فقط بل يشجب و يدين حالة متناقضة و يضعها في قفص السؤال مادامت قد قتلتها البداهة و الألفة و لامبالاة الناس . فالدودة التي تصنع الحرير لا تلبسه ، و هذه صورة مفردة أعتبرها شجرة تخفي غابة من المفارقات ... و بالتالي فقدرها العراء رغم كونها مصدرا للدثار و الغطاء . و هنا تخرج المفارقة من تسجيل التناقض إلى الوخز الأسود لحال أوشك أن يصبح طبيعيا و عاديا و حريا ألا يحرك في الناس نقدا أو تذمرا أو حتى مساءلة بسيطة .

هكذا فالزجل في عرف الشاعر عبدالحكيم يتجاوز التصوير إلى التصوير الفني البليغ و المتسائل إلى الانزياحات الدلالية الموغلة في العمق إلى المفارقة الفاضحة للتناقضات المتغولة في المشهد الإنساني عامّة .

-        تيمات الديوان :

لا يهمنا في هذا المنبر الإشادة بقولنا إن الزجال عبدالحكيم طرح في ديوانه مجموعة من القضايا مثل الوطنية و الوعي الديني و الاجتماعي و الفلكلوري و الحقوقي و مواضيع العشق و تراث البداوة و المناجاة و الحكمة و النصيحة و سؤال الكينونة و الاخلاقيات و الحرية و الغربة و الخيانة و فن الكتبة و ... في زخم غزير من المواضيع .

و لا يهمنا رصدها تباعا الواحدة بعد الأخرى ، فهذا مبحث خاص لا نصيب فيه إصابات أحسن من المتخصصين فيه من أهل علم ذلك . و حسبنا هنا أن نقول إن الزجال عبدالحكيم و هو يرصد كل هذا الزخم من القضايا يمتلك بوصلة فنية لا تمر على الماحول المكتوي مرور الكرام . يسجل وقفته المتأملة و الناقدة و الطارحة للبديل الجمالي الذي لا يكتفي بمزالق التشخيص و يعبرها إلى ضفاف التعبير الفني و اللهجي المدين و الشاجب و المتمرد على تغول الفساد .

و يهمنا أن الزجال عبدالحكيم لا يعيش في الأبراج العاجية البعيدة عن قضايا الناس . و من هنا فهو يتبنى الزجل المعانق للوجدان المغربي . يسائله ويحلله و يقوّمه بعد أن ينتقده و و يشجبه ويرفضه ...

·      في فن المساءلة :

و علاش ضو الشمس

كمم وجهو و تغنبر

·      في فن الوطنية :

آها على بلادي آها

ما بغيتها تقاسي لهموم

نعشق ترابها و هواها

قلبي متولع بها مغروم

·      في فن التدين :

هي صلاة لفجر مولاة الهمة

كملات سعدي ضوّات ايامي

·      في فن الاخلاقيات :

الصدق و الكدوب سارو محاورين

على غرايبهم حروفي منظومة

·      في فن الحرية :

ترجيتك لله يا الطير الحر

علمني نطير كيف الطيور

·      في فن السخرية :

العود البركي مشا للحرت بلجامو

جر المحرات بسكتو

و التمون ف حزامو

العصا من وراه

و الدنابة قدامو

·      فن الغربة :

حياتي عداب عايش غريب

شعر راسي كساه الشيب

و غدر الزمان ف وجهي بادي

سوالف همي مفتولة بسبيب

و القائمة هنا طويلة لا ينفع معها حصر أو تسييج . و لقد اكتفينا بما يمثل لا بما يحصر لأننا نكتفي بالإشارة التي تسود على العبارة .

و الشاعر الزجال عبدالحكيم لا يرضى في هذا المقام بالعرض . أي أن ذائقته أكبر من أن تقف عند عرض الظواهر و القضايا و كأنه عالمٌ يجرد حصيلة التشخيص الذي لا يقدم في شأو التغيير شيئا ذا بال . و لكن الزجال احتار أن يشخص و يصف و يتجاوزهما إلى الكشف عن الخلل في أسلوب زجلي لهجي مبدع و فنان يرتقي بالزجل إلى مقامات الكشف العارف .

من ذلك :

·  طرحه لمقولة المساءلة بكل الحمولة الاستفهامية و تجاوزها الى الحمولة الاستنكارية ثم المتجاوزة و الرافضة عبر مواقف نقدية فاضحة تتغيّى التغيير أكثر من غايات البكاء و التشخيص الخاوي . واضعة في محك السؤال كلا من الفرد و الجماعة و الكينونة و المفارقة و إدانة المعلوم و المجهول .

·  إغناؤه النظم بألوان الغيرة الوطنية حتى يتأتي للذات و للأخر مشخصا في المتلقي تذوق الزجل في تساميه على الأنا الضاغطة و انفتاحها على الجماعة الأكثر مصداقية

·  ندرة الموضوع في حديثه عن صلاة الفجر . و هذا لعمري مبحث زجلي قلّ من طارحه الشجن . و هذا  يحسب للشاعر و يدخل في تميزه و فرادته .

·  لا يتطرق الزجال عبدالحكيم لموضوع الاخلاقيات من باب العرض المسطح ، بل يختار لذلك مدخلا ذكيا يرتبط بالوجدان المغربي ، فيصوغه صياغة تراثية ترتبط بفن الحلقة . قال : 

بسم الكريم نبداو يا السامعين 

 من قصة جوج نستافدو معلومة 

 الصدق و لكدوب سارو محاورين 

 على غرايبهم حروفي منظومة ... 

و هنا يكمن ذكاء المبدع و هو يصب القضية في قالب ممتع و مستثير لذكاء المتلقي هو أقرب إلى المسكوكة المتداولة بين الناس في الأدب الشعبي و خاصة في فن الحلقة . و هنا يتم نسج الزجل في فن الحكي بأبطال خارقين لا ينتمون للواقع بقدر ما ينتمون لعالم التجريد .

-        رِهانٌ وزني :

راهن الزجال عبدالحكيم من منطلق اختيار فنيّ على وزن زجلي موسوم بالقوة البنائية و الإيقاعية ، و يتعلق الأمر بصوغه جلّ زجلياته إن لم نقل كلّ زجلياته في ميزان ( المبيّتْ ) . و هو في هذا يخلص لنسق التشطير القديم و التراثي  عبر آلية ( لغْطا ؤ لفْراشْ ) .

و أعتبر هذا الاختيار نوعا من الموقف الفني يريد به الزجال أن يقول للزجالين : الأمر في بناء القصيدة داخل اللهجة ليس أمرا يسيرا و لا أمرا عابرا يتيح لمن هبّ و دبّ أن يقول فيه نثرا دارجا لا ضابط له و لا قواعد توجّهه . الأمر في الزجل أكبر من ذلك و أجلّ و أصعب في مقارنته بالقصيدة داخل اللغة العربية العالمة لأنها واضحة الضوابط و القواعد و متّفق عليها . أما في الزجل فالأمر محتلف جدا إلى درجة الإشكال .

اختار الزجال عبدالحكيم وزن ( المبيّتْ ) اختيارا واعياً نستفيد منه معه بما يلي :

·  المْبيّتْ يذكرنا بأصالة البيت الشعري الخليلي بما يفيد أن الشاعر أخلص لنسق إيقاعي ماضوي و تراثي و قوي الحضور

·  البناء داخل إيقاع ( لمبيّتْ ) بناء موجب لكثير من البراعة التي لا تتأتّى إلا لمن خبر العمود الخليلي خبرة معينة ، و ذلك لأن البناء داخل هذا الوزن هو مغامرة موسيقية غير مأمونة العواقب إلا على من أوتي فصل الخطاب

·  حرص الزجال على التشطير بين ( الغطا ) و ( الفراش ) هو حرص على موسقة الزجل و الذهاب بأذن المتلقي مذهبا جماليا يشد لحمة الجمالية شدّاً قويا و حريريا في نفس الآن

·      هذا البناء الإيقاعي يتيح للزجليات قابلية الغناء

·  و هو البناء الذي يقربها من فن الملحون و يهبها مصداقية الإنشاد بقوة

لهذا و أنت تتجول داخل ( اخْيوط الْڭَمْرَة ) ستجد أذنك مشدودة إلى الموسيقى التي تحترم ذائقتك و لا تزج بها في أتون الاضطرابات اللاوزنية . و بالتالي ستكتشف كم هو صعب أن تأتي بالقوافي و الأروية المتناغمة و الموحدة في هذا الكم من القصائد ، بما يفيد ثراء القاموس اللهجي عند الزجال عبدالحكيم ، و أنه لا تغلبه في بيان أو بناء الإيقاع مفردة من هنا أو من هناك ، في غير تعسف أو ليٍّ لأعناق الكلمات و الضغط عليها حتى تستجيب لرغبة الزجال المتكلم .

و يفيدنا أيضا أن لغة ( المرڭَد ) حاضرة و مسعفة و قد أمدّت الشاعر بما يناسب المقامات من قول فنيّ مسؤول و ناضج و لا نحس فيه أبداً قسرا أو ضغطا مهما كان .

و قد جربت مجموعة من الزجليات داخل هذا الديوان على مستوى الغناء فوجدت أغلبها منسابا انسيابا جميلا و رقيقا و سهلا و أنا أحاول الغناء ، و قد نجحت في ذلك أيما نجاح و أنا أشنف مسامعي بلذيذ النظم المتأتي من قدرة الزجال عبدالحكيم على الصوغ اللهجي الراقي .

-        خاتمة :

لا ننتهي من بحر الفاضل عبدالحكيم الزجلي إلا لنعشق الدخول في غماره مرة ثانية . فالديوان من تلكم الفصيلة الإبداعية التي لا نشبع من استلهامها في أي لحظة نعود لمعاينته أو لقراءته ، نظرا لما يحمله في ذاته من قدرة على التجدد كلما تغير سياق حال القراءة و ظروفها أو إكراهاتها . من هنا قولنا إن الزجال عبدالحكيم ليس من النوع الذي يبتغي تركيماً لفن القول بقدر ما هو من النوع الذي يقدم عملا فنيا مسؤولا و ناضجا و مُعلّما في نفس الآن . فهو يقدّم دروسا جيدة في فن البناء اللهجي للعبارة الزجلية ، و يقدم بناء انزياحيا بليغا و يقدم أيضا و أساساً إيقاعا ثابتا و متغيرا في نفس الآن . و هو الإيقاع الراكب صهوة نظم ( المبيّتْ ) الذكي و القادر على احتضان الحرف و الكلمة و العبارة و الانزياح في تلوينات موسيقية تتسم بمكر السهولة و تنضح بعمق الصعوبة . و هنا أقدم تحياتي العاليات للزجال عبدالحكيم على اجتهاده النوعي في الذود عن حمى الزجل في عهد موبوء بالرداءات التي يُصفّق لها في المؤسسات و في غير المؤسسات . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 9 مايو 2023

مقدمة في ديوان ( فيهْ اللِّي فِينا ) للزجالة سناء مطر

 

مقدمة في ديوان ( فيهْ اللِّي فِينا ) للزجالة سناء مطر

1 – بين يدي الديوان :

تقدم الشاعرة الزجالة ( سناء سكوكي \ سناء مطر ) ديوانها الأول في مسيرتها الإبداعية المفتوحة على المزيد من العطاء  ، مطرّزاً بجمالية البناء الزجلي القائم على اختيار المفردة اللهجية بدقّة متناهية توخّياً لرفع منسوب إستيطيقا الزجل إلى أعلى ،  حتى لا تسقط الشاعرة ( سناء ) في متاهات الشبه المقيت الذي يعربد في ساحة الزجل المغربية و يتنطّع بوجهٍ قبيحٍ و صفيقٍ عارٍ من كل ملمحٍ للإبداع .

و تقدّم ديوانها مؤثّتاً داخل عشرين زجلية هي في الأصل عشرون لوحة . و تضم كل لوحة صرخاتٍ في وجه العدم و القبح و الفساد . و هي مفردةٌ تتشكل داخل علامة سيميائية هي ( اللُّوحَة ) بضمّ اللام المشددة عوض فتحها داخل العلامة العالمة ( اللَّوْحَة ) . توخيّا لاستنبات الفكرة الزجلية داخل الوجدان الشعبي الذي يتعامل مع ( اللُّوحَة ) بنسقية صوتية خاصة تختزن عمقا تراثياً أشدّ خصوصية .

عشرون زجلية تبنّتْ الصدق الفني في الصوغ الزجلي المتجاوز لخطاب اللهجة التواصلي داخل شرنقات اليومي الفاتك بشعرية النص . عشرونَ زجليةً توخّت فيها صاحبتُها اللمزَ و الغمزَ وفنّ  التلميح . كما صدحتْ فيها عبرَ أصواتِ الفضح و الشجْبِ و التصريح . و عزّزت جمالِيات قولها بالإشارة لمن له قبضٌ سريعٌ تنفع فيه اللّمحة قبل العبارة .

هكذا تنشد الشاعرة الزجالة ( سناء ) على خشبة الواقع برقصاتٍ لهجية تميدُ بوجدانِ القارئِ ميدا ، و تميس بخياله ميساً رُويداً رُويدا . و هكذا ارتأى مخيالُها أن تجرفنا إلى ضفاف نهرها الهادرِ بالإدهاش حتى نستجمّ بفيضِ شمس حروفها برهاتٍ من الزمن قبل أن تستفزّ عقلنا كي نلتفتَ إلى ما في الواقع من تغوّل يزحف إلى وجداننا كي يفسده بفعل تغوّل المفسدين . و من ثمّة وجب القول مسبقاً إن الديوان صرخة نقدية اجتماعية و إن لم تخلُ من همسٍ عاطفي لا يمسّ البعد الرسالي الزجلي في شيء بقدر ما يعضده و يُقوّيه و يمجّد فيه كل همس و كل صراخ و كل نقد .

تبدأ الزجالة ( سناء ) مشروعَ صوغِها الفنيّ و الهادف بلوحة ( الروح ) التي لم نُؤْتَ من علمها إلا قليلا . ثم ينثالُ مهرجان اللوحات تباعاً بما يلي : الليل – الدّقْ – حتالينْ – تْوامْ – نْواح الروح – الزّْهرْ – هِيَ – القلب – السّعدْ – امْرايْتِي – النية – فيهْ اللّي فِينا – المعڭاز – المضلوم – ما سوقيشْ – البحر – فرْنَسْ – شْكونْ يقدرْ – نْسيتي ) . و هي في هذه المسيرة الفنية لا تكتب زجلا بل تنشد روحاً و تُغنّيها في مواجهة الماحول المتغوّل ، قابضةً على مقولات الضوء ضد العتمة الكاسحة لرؤانا المنهزمة . و هي بهذا التوق المشعّ تريد أن تنتصر على الإعتام بكل ما أوتيت من حروف تتجاوز وجودها القاموسي الضيق إلى وجود فني يعبق بالجمال اللهجي كما يعبق بروح الرسالة .

2 – بعض الموسيقى :

و أول الغيث موسيقى . إن الزجالة ( سناء ) لا تقول زجلا كي تعجن اللهجة في ضباب الشعر كما يفعل الكثير ممّن تطاولوا على الإبداع و هو ينقلون خطابهم اليومي بين دفّتي كتاب ثم يصرخون بالزجل و ما هو بالزجل . الزجالة ( سناء ) تراهن على المعنى و الدلالة و المبنى و الموسيقى . إنها تؤمن أن الزجل إبداعٌ لهجيٌّ ينبغي أن يتخطّى مسامع المتلقي اليومية إلى عمليات التشنيف و الإمتاع و الإقناع . لهذا اختارت أن تسم زجلياتها بميسم الإيقاع الباعث على الانشداد إلى المحكي عبر الموسيقى أولا ثم المعنى ثانيا ثم الدلالة ثالثا ثم التأويل رابعا . و هي في هذا المنحى تلمّ كل طاقتها الصوتية لتضعها على ورق المقروء لأنها تدرك أن الإنشاد هو الشعر و هو الزجل . من ثمّة نفهم ميلها الكبير إلى ترتيب روحها في كل زجلية بناء على ما تمليه الزجلية من قرار فونيتيكي .

لنضرب على ذلك مثالاً من خلال الزجلية الأولى و الموسومة ب ( الروح ) . فهي اختارت أن ترتب أذهاننا داخل روي حرف ( الڭاف ) بتكراره في نسقية صوتية تبني توقعات المتلقي بناء ماكراً لأنها تستبدل صوت ( الڭاف ) بصوت ( الكاف ) و هو من جنسه حتّى لا تدخل ذائقة المستمع في رتابة الزجل و لتبقى حالمة بإدهاش الزجل . و الجميل في مستوى القصيدة الصوتي هو ختم كل مقطع بحرف دلالي و معبر و حامل لمعنى القفلة ، و يتعلق الأمر بهاء ضمير الغائب الماتحة بعض صواتَتِها من هاء السّكْتِ ، و ذلك في سياق قافية أمكر ، و هي متجلية على النسق الآتي (عسّي عليه - ما اتْڭدي عْليه - اتْراري بيه ) .

و المثال الثاني اخترتُه من الزجلية الأخيرة في الديوان ، و فيها لعبت الزجالة لعبة التنويع الصوتي تبعا لطبيعة الموضوع و الدلالات القائمة فيه . و الباعث على ذلك طبيعة السخرية الماضية في فضح الواقع القائم . من هنا جاءت الأروية و القوافي ساخرة في تنوع بائن يشد المتلقي إلى مفهوم الضحك الأسود من خلال تشاكلات صوتية واخزة . و مثال ذلك (اشْحيط الكلمة اللّي ،  تحكو بالتومة ، اللِّي تجمع ف رزمة - التخراش لي تَتْخم ، و الحق لي تزمْ - نسيتي الجوف ، نهار طاح مكروف - فمُّو يڭفض ، ف ندامة عض - رجعتي تسول ، ارْجع اتْسَكْوَلْ ) و كم هو ملاحظٌ هذا التنويع في الأروية بطريقة زجلية تبني الموسيقى داخل نسق صوتي مستفز و معالج و ناقد في نفس الآن .

 

3 – في سيمياء الخير و الشر :

أرى أن الديوان في كله و جلّه طرحٌ لهجيٌّ لكينونة الخير و الشر . و من منظور الزجالة سناء فالأمر يتعلق بثنائية وجودية لا بالمفهوم الفلسفي العدمي و لكن بمفهوم الحضور و الغياب الذي يلقي بظلاله على روحين : روح المبدعة و روح المتلقي .

من هنا نفهم لِمَ افْتتحتِ الزجالة سناء مهرجان قولها بزجلية ( الروح ) و كأنّها تروم بذلك فتحاً لمفهوم الشهادة بأن تكون الروح عالمة و شاهدة على كل المواقف التي ستتبنّاها الشاعرة بخصوص صراع طرفيْ الثنائية ( الخير و الشر ) . قالت الزجالة سناء : (جيتك يا روح بْ زوڭة ) و الزوڭة مفردة لهجية من قاع اللسان المغربي و تفيد الصراخ أو الإعلان ، و قد استأنسنا في ذلك التخريج بمفردة ( الزواڭة أو الزواكة ) بحرف الڭاف أو بحرف الكاف .

و أول تجلٍّ لهذه الثنائية ترسمه الشاعرة في عبارة واخزة تفضح ما في الكائن الحيّ من تناقض صارخ ، في تعبير لهجي يتّسم بالإيجاز القويّ ، و يُغني عن كثير من الإسهاب المجاني .  قالت : ( فْعايلو مسرارة - جغديد مدلوكة ) ... و العبارة اللهجية هنا في هذا المثال جمعت في فنّ الزجل بين طرفيْ نقيض ، أي بين مقولة الجمال مشخّصةً في ( مسرارة ) و بين مقولة القبح مجسّدةً في ( جغديد ) . و لا أجمل و لا أدقّ و لا أوجز من هذا الصوغ الزجلي الذاهب بالمتلقي مذاهب الإقناع قبل الإمتاع عبر ثنائية متضادة حاملة لأكثر من دلالة ، نستسيغها مع الشاعرة في سياق عاميّ يربط مفردة ( الجغديد ) بشيءٍ قبيح في وجداننا الشعبي هو السمّ أو الإفراط في الملوحة . من هنا قولهم في الدارجة المغربية ( تاكلْ فيهْ جغْديد ) .

و هذا مجرد مدخل لاستيعاب هذه الثنائية التي تقضّ مضجع الشاعرة سناء و تدفعها إلى القول عبر فن الزجل كي تفضح تغولات هذا الواقع من منظور زجلي شعري يُشرّح بعضَ أوصال المجتمع للكشف عن بعض حالاته المرضِية . و من تجليات هذه الثنائية الكثيرة في الديوان نذكر التوتّر البائن بين الظلام و الضوء اللذين عبّرتْ عنهما الشاعرة داخل انزياحات بليغة بلاغةً شعبية تمتحُ بعضَ انسيابها  من البلاغة العالمة ، في مثل ربطها لمقولة الليل بالطول و العراء و الصمت المُطبِق . في حين لوّحتِ الشاعرة للضوء بمفردة إيحائية شديدة الإيحاء ، و هي القمر في حضور محتشم جعلته الشاعرة يستجدي النجمات كي يقلّص من جبروت الظلام .

ناهيك عن أطراف أخرى فاضحة لأمراض هذا المجتمع ، و ذلك من قبيل ثنائية الظلم و العدل ، الحق و الباطل ، الرحمة و الجبروت ، الكرامة و الرعونة ، الخضرة و الجفاف ، الغدر و الأمان ، الحظ الجميل و النحس ، الحب و الكراهية ، الوطنية و اللاوطنية ، و غيرها مما دلّ على وعيِ الزجالة سناء الفنيّ بكل أشكال الخلل القائمة في المجتمع و العاملة باجتهادٍ مقيتٍ على نخر الذات المغربية في صميم جوهرها حتى يتسنّى لمسلسل الفساد بسط إرادته الغاشمة على مشاريع الخير و الجمال و النقاء .

إن الشاعرة سناء لا تقف بمشروعها الزجلي عند حافات التشخيص المجاني لهذه الثنائيات العاجّة بالتناقض و العدمية و السلب . و لا عند حدود التسجيل المرآتي القائم على الوصف المنفلت أو على المقولة الهاربة ( قلْ كلمتكَ و امْش ) بقدر ما تقدّم رؤياها الفنية عبر بوابة الزجل ، تقول فيها ما ينبغي قوله من باب الاستنكار أولاً و الشّجبِ ثانيا و إرادة التغيير ثالثا . هي تبصر الواقع من خلال الفن ، و تروم طرح رؤياها المغيرة لحساسية استقبال تغولات الواقع داخل طاقة إيجابية لا تنحني لرياح الفساد و لا يفزعها حبروته . لأنها تعلم أن ما بين جوانحها حرفٌ قويٌّ و بعيدٌ و ماضٍ في تشريحه و تفكيكه و تحليله للظواهر الفارضة سلطتها على الوجدان الفردي و الجمعي معا . و لهذا اختارت ألّا يكون حرفها طيعاً لفكرة الانهزامية و لا مستجيباً للعدمية الخاوية و لا راكعاً لسطان التغوّل الاجتماعي . إنها اختارتْ حرفا قويّاً قالت في توصيفه ( أنظر اللّوحة 13 ) :

يمكن لغايا

يجيك تزنزين

يمكن حرفي

ما شبعان ادْهين

و ليني دقتو ف الجبين

ترسم حفرة الزين

و توشم ف القلب منويين

و شحيطو بلا سواك

يعمر العين.

إنه حرف يتعامل مع الثنائيات المتناقضة من باب الوعي بالذات التي لا تلين لمساومة و التي تملك كل إمكانيات الضرب على أيدي الفساد بطريقة تترك أثرا إيجابيا في الموضوع . ( و ليني دقتو ف الجبين – ترسم حفرة الزين ) . هكذا تؤسس الشاعرة لحرفها ، أي لفن زجلها داخل وظيفتين : واحدةٌ تشريحية و ثانية جمالية .

4 – جماليات الصوغ الزجلي في الديوان :

لا نستطيع أن نحاصر هذه الجمالية لا في المعنى و لا في المبنى لأن هذا الحصار من شأنه أن يفتك بالرؤية الفنية للديوان . و من ثمّة يجرنا إلى تفكيكية غير عادلة . لهذا يكون من الأنسب أن نقرأ الديوان في معناه و في مبناه و في ددلالاته داخل أفق واسع هو استحضار المتلقي في عمليات تذوقه أولا و تأويله ثانيا . و لكي نقترب من هذا الهدف الجمالي لابدّ أن نستوعب جيّداً أننا إزاء مشكلة فنية ترتبط بأداة التعبير . إن البحث في جمالية الشعر العربي الفصيح أمر مألوف و ميسّر لأننا نقرأ الفصيح داخل أداة اللغة العربية المعربة و الفصيحة و الماتحة ماهيتها من ضوابط و قواعد نحوية و صرفية دقيقة تمثل المرجعية التي نحتكم إليها في كل نشاز . و لكننا في مضمار الزجل لا نمتلك هذه القدرة لأننا نتعامل من شعر يستعمل اللهجة ، و هي المتعددة في ربوع الوطن ، و هي المشكّلة تبعا لوجدان الحزام الجغرافي الذي ولدتْ فيه و ترعرعتْ .

 ناهيك عن استعمال هذه اللهجة في التخاطب اليومي مما يوهم البعض ممّن يدّعون زجلا أن الزجل أمر سهل الإبداع مادام قد صيغ بالعامية . بل العكس هو الصحيح و السليم . فالإبداع داخل لغة التخاطب اليومي يملي على المبدع نباهة متفردة و حرصا شديدا على إحداث القطيعة داخل المألوف حتى يتسنى للمتلقي إدراك أن الزجال فلان قد أمتعنا بابتعاده عن تكرار لغة التخاطب اليومي في ديوانه ، و أدهشنا بصناعة المسافات الممكنة بين لهجته المشتركة و بين زجله المتميّز .

و الشاعرة سناء استطاعت أن تتملّص من هذه الإشكالية بأن عانقت مشروع الإدهاش الفنيّ في الزجل و عدم السقوط في تكرار مفردات التخاطب اليومي كما يصنع كثير ممّن حُسِبوا ظلماً على محاريب الزجل المغربي .

و تقدّم لنا الشاعرة ديوانها معجوناً في لغةٍ ... أو بالأحرى ... لهجةٍ تعيشُها في حياتيْن استطاعتْ أن تفصل بينهما : حياتها الخاصة حيث اللهجة وسيلة و حياتها الفنية حيث اللهجة إبداع . و هنا مربط الفرس . فقد صاغت الزجالة لوحاتها خارج سلطة العامية بأن صنعتْ لهجة فنّها الخاصّة حتى لا يختلط حابلُ اليومي مع نابل الفنيّ . ثمّ أخذت ملامح الماحول و عجنتها في بؤرة روحها المحلّقة ، و حرصت أن تطبع كل مفردة بكل الممكن من الطاقة الإيحائية حتى يخرج زجلها ماضياً مضاءَ الترياق في الجسد . و هي في هذا المشروع الفنيّ استدعت اللهجة في جناحها الدينامي القادر على محاورة المتلقي حتى لا يتمّ عزله داخل برج الاستمتاع فحسب .

و لا أدلّ على هذه الجمالية من اللوحة الرابعة ( حتالين ) حيث المساءلة سيدة الموقف ، و الغلاف المؤطر لها وخزٌ جميلٌ بلدغ أمكر . و لا يكون أمر المتلقي إلا تبنّياً لموقف الشاعرة أو تعاطفاً في أضعف الإيمان . قالت الزجالة سناء :

حتالين

وسادنا حجر

سعدنا شمر

مشطون يتعافر

لداوير الزمان يجر

احلامنا سكنتوها لمقابر

نزفت بالخناجر

مرشوڭة ف الصبر

 و السؤال هنا مصوغٌ في ذكاء العبارة المسكوكة داخل الوجدان المغربي بحمولة مكتظّة بالمضاضة و القرف من هذا الماحول المتجبّر . ( حتالين ) سؤال لهجي فني أخرجته الشاعرة من بداهة الدارجة البسيطة إلى قلق السؤال الوجودي الواضع لكينونة المتكلمة و لكينونة المتلقي في أتون المساءلة المقلقة و الباعثة على المزيد من تناسل الاسئلة الذاهبة مذاهب الحفر في أركيولوجيا الفساد ، لا المتبخرة في ضباب الامتصاص و كأنها أقراص مهدّئة أو منوّمة .

إن جمالية النص الزجلي هنا لا تؤمن بدغدغة الوجدان في المتلقي من أجل استحسان المقول . و إنما تؤمن بضرورة نقل المتلقي من حالات الصمت إلى حالات الكلام ، و من وضعيات الفرجة الخاوية إلى وضعيات المشاركة ، و من لغة الاستسلام إلى لغات الشجب و الاحتجاج .

إنها جمالية القول في شقين : شقّ الوخز و شق التنبيه .

 و لنمضِ قدما في استكناه ملامح هذه الجمالية و هي كثيرة و غزيرة في الديوان ، و نستشهد لها تمثيلا لا حصرا . و نذكر من قبيل ذلك اللوحة 16 ( ما سُوقِيشْ ) :

ما سوقيش

الى الخاطر راب

والحق ف اللْسان

اتْعابْ ...

 

ما سوقيش

الى اللّْغى خسر

و الدم  حجر

و الصح ف لخلا

اتْوضر

...

و قد تكررت مفردة ( ما سوقيش ) عشر مرات في لبوسٍ زجلي فنيّ لادغ يقدّم الموقف الوجودي للذات المتكلمة داخل الوعي المضاد للفكر السائد . كيف ذلك ؟ نحن نعلم أن مفردة أو عبارة ( ما سوقيش ) هي في الاصل عبارة استسلامية تمتح مادتها الانهزامية من ثقافة متجذرة تقول ( المصيبة إذا عمّتْ هانتْ ) على مستوى الثقافة العالمة ... كما تقول بلسان الثقافة الشعبية و بلسان الوجدان الجمعي ( دير راسك بين الروس ؤ عيطْ آ قطّاع الريوس ) و هذا كله يندرج في مسلسل تجويف الذات المغربية و إفراغها من ثقافة الموقف إلى ثقافة الاستسلام و العبثية و اللامبالاة و الأنانية ( أنا ، و من بعدي الطوفان ) .

لكن الشاعرة وظّفت جمالية الموقف داخل جمالية التعبير . فموقفها إيجابي و واعٍ بالمسؤولية ، و هي لا تزجّ بالعبارة ( ما سوقيش ) في تكرار الانهزامية المقيتة بقدر ما تحول العبارة إلى سلاح مضاد عبر مسلسل التداعيات الواصفة و الموصوفة في القصيدة لحالات العدمية و التي تختمها الشاعرة بموقف نقدي قوي . قالت بعد أن شخصتْ حالات الخرق و السلب :

ما سوقيش

إيهْ ... ما سوقيش

ؤُ بالسّيف غنعبر

و نبني عشيش

و للصبر نرش بقشيش

نعتق النية من النهيش

و العطفة من لَقْميش

و اللّي من كلامي زعفان

احسن لِيهْ

يِعيش هربان

را عضة لمعڭور

تريّبْ الشان

هكذا تحول الشاعرة الهزيمة إلى نصر ، و الخواء إلى عمار و الضعف إلى قوة ... بعد أن تستدرج المتلقي إلى خطاب الهزيمة ، لتعلن في وجهه صرخة القيام و النهوض بدل الاستسلام . إنها جماليات الموقف حين يستدعي اللغة\ اللهجة في مكرها الأدبي ، و هي تستفز القارئ و تحرّك مكامنه في أبعاد إنسانية عامرة بالخير و الجق و الجمال .

-        ختم :

هذا غيض من فيض ، لم يسعفنا مقام التقديم كي نلمّ بكل شروط الكتابة الزجلية لدى الشاعرة و الزجالة المختلفة سناء سكوكي . و حسبنا من هذا و ذاك أننا استنفرنا بعض مكونات الديوان فتحاً لشهية الكلام فيه في لاحق الإيام . و حسبنا أيضا أننا علمنا أننا إزاء شاعرة بكل القوة الممكنة لشابّة تبحث عن شكل فني لزجلها خارج الشبه القبيح و التكرار الأقبح . و إنما هي الباحثة في تحدٍّ جميل و جليل عن الأجمل في لهجتنا المغربية الحمّالة لكثير من أوجه الجمال . و لا يسعنا في هذا المقام الطيب إلا أن نتمنّى لها مسارا إبداعيا متصاعد العروج لا يعرف للتراجع في الإدهاش معنى ، حتى يتسنى لها أن تبصم الساحة الزجلية المغربية بميسمها الخاص و الجميل و المدهش .

...

نورالدين حنيف أبوشامة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...