الخميس، 5 أكتوبر 2017

مقاربَة تحليلية في زجلية للشاعر المفضل الياموني

المفضّل الْيامُوني
شَاعِرٌ يَكْتُبُ
بِغَضَبٍ منْ حَرِير
...

عرفْتُه متَحوّلاً ، دائِمَ التّحوّل في أقانِيمِ الْبوحِ ، لا يَهْدأ لهُ بالٌ حتّى يُحْرِجَ حرْفَهُ ويُخْرِجَهُ منْ دوائِرِ الْبداهَة الرّتِيبَة ، ولا يَسْتَقِرّ على حالٍ حتّى يَنْتَقِلَ إلى حالٍ عامِرٍ بالْسؤالِ ، فَهُو يَكْرَهُ الْإجاباتِ الْجاهِزَةَ ، ويُلْقِي بكَلْمِهِ في أتُونِ النّارِ كيْ تَنْضِجَ مُفْرَداتُهُ قَبْلَ نُضْجِ التّينِ والْعِنَبِ ... فَفِي حَدّ شِعْرِهِ الْفَيْصَلُ الْفاصِلُ بيْنَ الْجدّ واللّعِبِ .
...
ولقَدْ أوْقَفتْني في بَساتِينِ الدّهْشَة زَهْرَةٌ بريّة منْ أزهارِه الْعبِقَة ، أنْ ترَيّتْ يا عابِرُ ، واشْتَمَّ الْحياةَ فِيها ، فلَعلّكَ غيرُ آيِبٍ بَعْدُ ... وَ وقَفْتُ ، وكانَ الّذي كان ... تقُولُ الزّهْرة فِي عُجالَةٍ ماتِعَة :

قلت: نسل روحــــــــــــي
من الــــــــــــــــــــــــكسدة ..
كيف الشعرة من لعـــــجين ..
نفرغها ف بـــــــــــــــــوحي ..
نخليها عل طول الزمان تنين
بالما مـــــــــــــــــــحيت لوحي
وترجيت نكون مع الكاينين


فِي حِوار داخِلِي ، جُوانِي ، يَرومُ قَراراً غرِيباً يُمَهّدُ لِفِعْلِ الْكَيْنُونَة والْوجُود ، في سُؤالٍ يُشَيّدُ لِهُويّةٍ باحِثَةٍ عنِ الْمعْنَى ... في غَيْرِ فَلْسَفَة ، وفِي غَيْرِ ابْتِذال ... ولكِنْ فِي عُمْقٍ شاعِريّ يمْتَدّ بيْنَ تُخُومِ الرّوحِ والْجَسَد ، في صِراعٍ لَذِيذٍ بينَ الْوعاء والْمُحْتَوى ، بيْنَ الْعَرَضِ والْجَوْهَر ، بيْنَ الاِمْتِدادِ الْعَموديّ وبيْنَ الْاِمْتدادِ الْأفُقيّ ...

وكانَ الْقَرارُ شامِخاً ، لأنّ الشّاعِر يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِين ، حجْمَ الْألَم ، جرّاءَ فصْلِ الرّوحِ عن جَسَدِها ، وهَوْلَ الْإخْراجِ ، وفَداحَةَ الْنّزْع ... ومَعَ ذلكَ أقْدَمَ الشّاعِرُ على فِعلِ ما لابُدّ منْ فِعلِه ... وَ فِي غَيْرِ سادِيّةٍ تمّتِ الْعَمليّة ، وَ كانتْ كاشِفَةً لِقُدْرَة الذّاتِ على تحْوِيلِ الْألَمِ إلى لَذّة ، نكادُ نَسّمّعُ لُذاذاتِها ونحْنُ نتَمَثّلُ انْسِلالَ الرّوحِ منْ قَبْضَة الْجَسَد كانْسِلالِ الشّعْرَةِ منَ الْعَجِين ... فِي انْسِيابِيّةٍ غَريبَة غَرابَة النّجاةِ في موْقِفٍ مسْدود ...

ثمّ ماذا بَعْدُ ؟ وما مَصِيرُ هذِهِ الرّوح ؟ هلْ ستَلْقَى مَصِيرَ التّيهِ والضّياع ؟ أم أنّ الشّاعِرَ قدْ وَفّرَ لَها مَثْوىً آخَرَ غيْرَ الّذي كانتْ تُقِيمُ فِيه ؟ ...

يَكْتَمِلُ الْقرارُ في نِهاياتٍ مباغِتَة تنْطَوي على عُنْصُر الدّهْشَة . يأخُذُ الشّاعِرُ بيَد الرّوح ويَحْمِلُها إلى مثْوىً آخَرَ يَلِيقُ بِحَجْمِها ... { نْفَرّغْها فْ بُوحِي } ... وَهَلْ هُناكَ أجْمَلُ منْ هَذا التّخْرِيجِ الذّكيّ ؟

فَمادَامَتِ الرّوحُ منْ أمْرِ الْغيْبِ ، ومادامَتْ زِئْبَقِيّة الْكيْنونَة ، هَيولانِيّةَ الشّكلِ ... فَلا مقَامَ لَها إلا فِي وِعاِءٍ يَكادُ يُشْبِهُها ... فكانَ الْبوحُ خيْرَ مقَام ، وكانَ خَيْرَ حاضِنٍ ، فَهُوَ الْوحِيدُ الضّامِنُ انْسِجامَ عَناصِرِها ، والضّامِنُ اسْتِمْرارَها في الْأنِينِ ... وكأنّ الشّاعِرَ يَروُمُ تَسْطِيرَ فلْسَفَةٍ لِشِعْرِهِ تَكادُ تَقُولُ : لا خَيْرَ في شِعْرٍ لا يَبْكِي . { نخليها عل طول الزمان تنين } . وَما الْأنِينُ إلّا انْكِتابٌ دائِم ، وَ بوْحٌ دَائِب .

فَجْأةً ، يَتحَوّلُ الشّاعِرُ إلى قارئٍ لِبَوحِه ... يَكْتُبُ سُطورَ وُجودِهِ على لَوحِه ، وبالْماءِ يَمْحُو نَوْحَه ... فِي جَدلٍ راقٍ يتَأرْجَحُ بيْنَ الاِنْكِتابِ والْامّحاء ... تَتَمَسْرَحُ كَيْنونَةُ الذّات ، مُتَغَيّرة ، مُتحَوّلَة ...لا تُؤمِنُ بالشّبَه ، ولا تَرْكَنُ لِحَقِيقَة ... فَكلّ مَكْتُوبٍ نِسْبيّ ...

منْ هُنا وجُودُ الشّاعِرِ بامْتِياز { وتْرجيت نْكون مْع الكاينينْ } فِي رَغْبَةٍ وجُودِيّة أنْ يُمارِسَ حَقّهُ في الْوجُودِ لا مَعَ الْموْجودات ، ولكِنْ معَ { لْكايْنِينْ } ... فالشّاعِرُ وبِوَعْيٍ منْهُ ، يُفَرّقُ بيْنَ منْ يُوجَدُ مثْلَ السّائِمَة ، وبيْنَ من يُوجَدُ حيّاً يَفْعَلُ في وُجودِه ويَنْفَعِل ويَتَفاعَل ... فِي غَيْرِ فكْرِ قَطِيعِيّ ، ولكِنْ في كَيْنُونَة مُتَمَيّزَة .

هذا الّذِي كانَ ، أفْرغَهَ الشّاعِرُ في بُؤْرَة إيقاعِيّةٍ رقِيقَة السّكْبِ والْانْسِكاب ، يَتشاكَلُ فِيها صوْتُ الْحاء بِحُمولَتِهِ الْحزِينَة مع صَوْتِ النّون كَنَسَق يَمْتَصّ الْحُزنَ ويُحوّلُهُ إلى فَرْحَة بالْقرار .

...

نورالدين حنيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...