المفضّل الْيامُوني
شَاعِرٌ يَكْتُبُ
بِغَضَبٍ منْ حَرِير
...
عرفْتُه متَحوّلاً ، دائِمَ التّحوّل في أقانِيمِ الْبوحِ ، لا يَهْدأ لهُ بالٌ
حتّى يُحْرِجَ حرْفَهُ ويُخْرِجَهُ منْ دوائِرِ الْبداهَة الرّتِيبَة ، ولا يَسْتَقِرّ
على حالٍ حتّى يَنْتَقِلَ إلى حالٍ عامِرٍ بالْسؤالِ ، فَهُو يَكْرَهُ الْإجاباتِ الْجاهِزَةَ
، ويُلْقِي بكَلْمِهِ في أتُونِ النّارِ كيْ تَنْضِجَ مُفْرَداتُهُ قَبْلَ نُضْجِ التّينِ
والْعِنَبِ ... فَفِي حَدّ شِعْرِهِ الْفَيْصَلُ الْفاصِلُ بيْنَ الْجدّ واللّعِبِ
.
...
ولقَدْ أوْقَفتْني في بَساتِينِ الدّهْشَة زَهْرَةٌ بريّة منْ أزهارِه الْعبِقَة
، أنْ ترَيّتْ يا عابِرُ ، واشْتَمَّ الْحياةَ فِيها ، فلَعلّكَ غيرُ آيِبٍ بَعْدُ
... وَ وقَفْتُ ، وكانَ الّذي كان ... تقُولُ الزّهْرة فِي عُجالَةٍ ماتِعَة
:
قلت: نسل روحــــــــــــي
من الــــــــــــــــــــــــكسدة ..
كيف الشعرة من لعـــــجين ..
نفرغها ف بـــــــــــــــــوحي ..
نخليها عل طول الزمان تنين
بالما مـــــــــــــــــــحيت لوحي
وترجيت نكون مع الكاينين
فِي حِوار داخِلِي ، جُوانِي ، يَرومُ قَراراً غرِيباً يُمَهّدُ لِفِعْلِ الْكَيْنُونَة
والْوجُود ، في سُؤالٍ يُشَيّدُ لِهُويّةٍ باحِثَةٍ عنِ الْمعْنَى ... في غَيْرِ فَلْسَفَة
، وفِي غَيْرِ ابْتِذال ... ولكِنْ فِي عُمْقٍ شاعِريّ يمْتَدّ بيْنَ تُخُومِ الرّوحِ
والْجَسَد ، في صِراعٍ لَذِيذٍ بينَ الْوعاء والْمُحْتَوى ، بيْنَ الْعَرَضِ والْجَوْهَر
، بيْنَ الاِمْتِدادِ الْعَموديّ وبيْنَ الْاِمْتدادِ الْأفُقيّ
...
وكانَ الْقَرارُ شامِخاً ، لأنّ الشّاعِر يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِين ، حجْمَ
الْألَم ، جرّاءَ فصْلِ الرّوحِ عن جَسَدِها ، وهَوْلَ الْإخْراجِ ، وفَداحَةَ الْنّزْع
... ومَعَ ذلكَ أقْدَمَ الشّاعِرُ على فِعلِ ما لابُدّ منْ فِعلِه ... وَ فِي غَيْرِ
سادِيّةٍ تمّتِ الْعَمليّة ، وَ كانتْ كاشِفَةً لِقُدْرَة الذّاتِ على تحْوِيلِ الْألَمِ
إلى لَذّة ، نكادُ نَسّمّعُ لُذاذاتِها ونحْنُ نتَمَثّلُ انْسِلالَ الرّوحِ منْ قَبْضَة
الْجَسَد كانْسِلالِ الشّعْرَةِ منَ الْعَجِين ... فِي انْسِيابِيّةٍ غَريبَة غَرابَة
النّجاةِ في موْقِفٍ مسْدود ...
ثمّ ماذا بَعْدُ ؟ وما مَصِيرُ هذِهِ الرّوح ؟ هلْ ستَلْقَى مَصِيرَ التّيهِ
والضّياع ؟ أم أنّ الشّاعِرَ قدْ وَفّرَ لَها مَثْوىً آخَرَ غيْرَ الّذي كانتْ تُقِيمُ
فِيه ؟ ...
يَكْتَمِلُ الْقرارُ في نِهاياتٍ مباغِتَة تنْطَوي على عُنْصُر الدّهْشَة .
يأخُذُ الشّاعِرُ بيَد الرّوح ويَحْمِلُها إلى مثْوىً آخَرَ يَلِيقُ بِحَجْمِها
... { نْفَرّغْها فْ بُوحِي } ... وَهَلْ هُناكَ أجْمَلُ منْ هَذا التّخْرِيجِ الذّكيّ
؟
فَمادَامَتِ الرّوحُ منْ أمْرِ الْغيْبِ ، ومادامَتْ زِئْبَقِيّة الْكيْنونَة
، هَيولانِيّةَ الشّكلِ ... فَلا مقَامَ لَها إلا فِي وِعاِءٍ يَكادُ يُشْبِهُها
... فكانَ الْبوحُ خيْرَ مقَام ، وكانَ خَيْرَ حاضِنٍ ، فَهُوَ الْوحِيدُ الضّامِنُ
انْسِجامَ عَناصِرِها ، والضّامِنُ اسْتِمْرارَها في الْأنِينِ ... وكأنّ الشّاعِرَ
يَروُمُ تَسْطِيرَ فلْسَفَةٍ لِشِعْرِهِ تَكادُ تَقُولُ : لا خَيْرَ في شِعْرٍ لا يَبْكِي
. { نخليها عل طول الزمان تنين } . وَما الْأنِينُ إلّا انْكِتابٌ دائِم ، وَ بوْحٌ
دَائِب .
فَجْأةً ، يَتحَوّلُ الشّاعِرُ إلى قارئٍ لِبَوحِه ... يَكْتُبُ سُطورَ وُجودِهِ
على لَوحِه ، وبالْماءِ يَمْحُو نَوْحَه ... فِي جَدلٍ راقٍ يتَأرْجَحُ بيْنَ الاِنْكِتابِ
والْامّحاء ... تَتَمَسْرَحُ كَيْنونَةُ الذّات ، مُتَغَيّرة ، مُتحَوّلَة ...لا تُؤمِنُ
بالشّبَه ، ولا تَرْكَنُ لِحَقِيقَة ... فَكلّ مَكْتُوبٍ نِسْبيّ
...
منْ هُنا وجُودُ الشّاعِرِ بامْتِياز { وتْرجيت نْكون مْع الكاينينْ } فِي رَغْبَةٍ
وجُودِيّة أنْ يُمارِسَ حَقّهُ في الْوجُودِ لا مَعَ الْموْجودات ، ولكِنْ معَ { لْكايْنِينْ
} ... فالشّاعِرُ وبِوَعْيٍ منْهُ ، يُفَرّقُ بيْنَ منْ يُوجَدُ مثْلَ السّائِمَة ،
وبيْنَ من يُوجَدُ حيّاً يَفْعَلُ في وُجودِه ويَنْفَعِل ويَتَفاعَل ... فِي غَيْرِ
فكْرِ قَطِيعِيّ ، ولكِنْ في كَيْنُونَة مُتَمَيّزَة .
هذا الّذِي كانَ ، أفْرغَهَ الشّاعِرُ في بُؤْرَة إيقاعِيّةٍ رقِيقَة السّكْبِ
والْانْسِكاب ، يَتشاكَلُ فِيها صوْتُ الْحاء بِحُمولَتِهِ الْحزِينَة مع صَوْتِ النّون
كَنَسَق يَمْتَصّ الْحُزنَ ويُحوّلُهُ إلى فَرْحَة بالْقرار .
...
نورالدين حنيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق