الثلاثاء، 9 مايو 2023

مقدمة في ديوان ( فيهْ اللِّي فِينا ) للزجالة سناء مطر

 

مقدمة في ديوان ( فيهْ اللِّي فِينا ) للزجالة سناء مطر

1 – بين يدي الديوان :

تقدم الشاعرة الزجالة ( سناء سكوكي \ سناء مطر ) ديوانها الأول في مسيرتها الإبداعية المفتوحة على المزيد من العطاء  ، مطرّزاً بجمالية البناء الزجلي القائم على اختيار المفردة اللهجية بدقّة متناهية توخّياً لرفع منسوب إستيطيقا الزجل إلى أعلى ،  حتى لا تسقط الشاعرة ( سناء ) في متاهات الشبه المقيت الذي يعربد في ساحة الزجل المغربية و يتنطّع بوجهٍ قبيحٍ و صفيقٍ عارٍ من كل ملمحٍ للإبداع .

و تقدّم ديوانها مؤثّتاً داخل عشرين زجلية هي في الأصل عشرون لوحة . و تضم كل لوحة صرخاتٍ في وجه العدم و القبح و الفساد . و هي مفردةٌ تتشكل داخل علامة سيميائية هي ( اللُّوحَة ) بضمّ اللام المشددة عوض فتحها داخل العلامة العالمة ( اللَّوْحَة ) . توخيّا لاستنبات الفكرة الزجلية داخل الوجدان الشعبي الذي يتعامل مع ( اللُّوحَة ) بنسقية صوتية خاصة تختزن عمقا تراثياً أشدّ خصوصية .

عشرون زجلية تبنّتْ الصدق الفني في الصوغ الزجلي المتجاوز لخطاب اللهجة التواصلي داخل شرنقات اليومي الفاتك بشعرية النص . عشرونَ زجليةً توخّت فيها صاحبتُها اللمزَ و الغمزَ وفنّ  التلميح . كما صدحتْ فيها عبرَ أصواتِ الفضح و الشجْبِ و التصريح . و عزّزت جمالِيات قولها بالإشارة لمن له قبضٌ سريعٌ تنفع فيه اللّمحة قبل العبارة .

هكذا تنشد الشاعرة الزجالة ( سناء ) على خشبة الواقع برقصاتٍ لهجية تميدُ بوجدانِ القارئِ ميدا ، و تميس بخياله ميساً رُويداً رُويدا . و هكذا ارتأى مخيالُها أن تجرفنا إلى ضفاف نهرها الهادرِ بالإدهاش حتى نستجمّ بفيضِ شمس حروفها برهاتٍ من الزمن قبل أن تستفزّ عقلنا كي نلتفتَ إلى ما في الواقع من تغوّل يزحف إلى وجداننا كي يفسده بفعل تغوّل المفسدين . و من ثمّة وجب القول مسبقاً إن الديوان صرخة نقدية اجتماعية و إن لم تخلُ من همسٍ عاطفي لا يمسّ البعد الرسالي الزجلي في شيء بقدر ما يعضده و يُقوّيه و يمجّد فيه كل همس و كل صراخ و كل نقد .

تبدأ الزجالة ( سناء ) مشروعَ صوغِها الفنيّ و الهادف بلوحة ( الروح ) التي لم نُؤْتَ من علمها إلا قليلا . ثم ينثالُ مهرجان اللوحات تباعاً بما يلي : الليل – الدّقْ – حتالينْ – تْوامْ – نْواح الروح – الزّْهرْ – هِيَ – القلب – السّعدْ – امْرايْتِي – النية – فيهْ اللّي فِينا – المعڭاز – المضلوم – ما سوقيشْ – البحر – فرْنَسْ – شْكونْ يقدرْ – نْسيتي ) . و هي في هذه المسيرة الفنية لا تكتب زجلا بل تنشد روحاً و تُغنّيها في مواجهة الماحول المتغوّل ، قابضةً على مقولات الضوء ضد العتمة الكاسحة لرؤانا المنهزمة . و هي بهذا التوق المشعّ تريد أن تنتصر على الإعتام بكل ما أوتيت من حروف تتجاوز وجودها القاموسي الضيق إلى وجود فني يعبق بالجمال اللهجي كما يعبق بروح الرسالة .

2 – بعض الموسيقى :

و أول الغيث موسيقى . إن الزجالة ( سناء ) لا تقول زجلا كي تعجن اللهجة في ضباب الشعر كما يفعل الكثير ممّن تطاولوا على الإبداع و هو ينقلون خطابهم اليومي بين دفّتي كتاب ثم يصرخون بالزجل و ما هو بالزجل . الزجالة ( سناء ) تراهن على المعنى و الدلالة و المبنى و الموسيقى . إنها تؤمن أن الزجل إبداعٌ لهجيٌّ ينبغي أن يتخطّى مسامع المتلقي اليومية إلى عمليات التشنيف و الإمتاع و الإقناع . لهذا اختارت أن تسم زجلياتها بميسم الإيقاع الباعث على الانشداد إلى المحكي عبر الموسيقى أولا ثم المعنى ثانيا ثم الدلالة ثالثا ثم التأويل رابعا . و هي في هذا المنحى تلمّ كل طاقتها الصوتية لتضعها على ورق المقروء لأنها تدرك أن الإنشاد هو الشعر و هو الزجل . من ثمّة نفهم ميلها الكبير إلى ترتيب روحها في كل زجلية بناء على ما تمليه الزجلية من قرار فونيتيكي .

لنضرب على ذلك مثالاً من خلال الزجلية الأولى و الموسومة ب ( الروح ) . فهي اختارت أن ترتب أذهاننا داخل روي حرف ( الڭاف ) بتكراره في نسقية صوتية تبني توقعات المتلقي بناء ماكراً لأنها تستبدل صوت ( الڭاف ) بصوت ( الكاف ) و هو من جنسه حتّى لا تدخل ذائقة المستمع في رتابة الزجل و لتبقى حالمة بإدهاش الزجل . و الجميل في مستوى القصيدة الصوتي هو ختم كل مقطع بحرف دلالي و معبر و حامل لمعنى القفلة ، و يتعلق الأمر بهاء ضمير الغائب الماتحة بعض صواتَتِها من هاء السّكْتِ ، و ذلك في سياق قافية أمكر ، و هي متجلية على النسق الآتي (عسّي عليه - ما اتْڭدي عْليه - اتْراري بيه ) .

و المثال الثاني اخترتُه من الزجلية الأخيرة في الديوان ، و فيها لعبت الزجالة لعبة التنويع الصوتي تبعا لطبيعة الموضوع و الدلالات القائمة فيه . و الباعث على ذلك طبيعة السخرية الماضية في فضح الواقع القائم . من هنا جاءت الأروية و القوافي ساخرة في تنوع بائن يشد المتلقي إلى مفهوم الضحك الأسود من خلال تشاكلات صوتية واخزة . و مثال ذلك (اشْحيط الكلمة اللّي ،  تحكو بالتومة ، اللِّي تجمع ف رزمة - التخراش لي تَتْخم ، و الحق لي تزمْ - نسيتي الجوف ، نهار طاح مكروف - فمُّو يڭفض ، ف ندامة عض - رجعتي تسول ، ارْجع اتْسَكْوَلْ ) و كم هو ملاحظٌ هذا التنويع في الأروية بطريقة زجلية تبني الموسيقى داخل نسق صوتي مستفز و معالج و ناقد في نفس الآن .

 

3 – في سيمياء الخير و الشر :

أرى أن الديوان في كله و جلّه طرحٌ لهجيٌّ لكينونة الخير و الشر . و من منظور الزجالة سناء فالأمر يتعلق بثنائية وجودية لا بالمفهوم الفلسفي العدمي و لكن بمفهوم الحضور و الغياب الذي يلقي بظلاله على روحين : روح المبدعة و روح المتلقي .

من هنا نفهم لِمَ افْتتحتِ الزجالة سناء مهرجان قولها بزجلية ( الروح ) و كأنّها تروم بذلك فتحاً لمفهوم الشهادة بأن تكون الروح عالمة و شاهدة على كل المواقف التي ستتبنّاها الشاعرة بخصوص صراع طرفيْ الثنائية ( الخير و الشر ) . قالت الزجالة سناء : (جيتك يا روح بْ زوڭة ) و الزوڭة مفردة لهجية من قاع اللسان المغربي و تفيد الصراخ أو الإعلان ، و قد استأنسنا في ذلك التخريج بمفردة ( الزواڭة أو الزواكة ) بحرف الڭاف أو بحرف الكاف .

و أول تجلٍّ لهذه الثنائية ترسمه الشاعرة في عبارة واخزة تفضح ما في الكائن الحيّ من تناقض صارخ ، في تعبير لهجي يتّسم بالإيجاز القويّ ، و يُغني عن كثير من الإسهاب المجاني .  قالت : ( فْعايلو مسرارة - جغديد مدلوكة ) ... و العبارة اللهجية هنا في هذا المثال جمعت في فنّ الزجل بين طرفيْ نقيض ، أي بين مقولة الجمال مشخّصةً في ( مسرارة ) و بين مقولة القبح مجسّدةً في ( جغديد ) . و لا أجمل و لا أدقّ و لا أوجز من هذا الصوغ الزجلي الذاهب بالمتلقي مذاهب الإقناع قبل الإمتاع عبر ثنائية متضادة حاملة لأكثر من دلالة ، نستسيغها مع الشاعرة في سياق عاميّ يربط مفردة ( الجغديد ) بشيءٍ قبيح في وجداننا الشعبي هو السمّ أو الإفراط في الملوحة . من هنا قولهم في الدارجة المغربية ( تاكلْ فيهْ جغْديد ) .

و هذا مجرد مدخل لاستيعاب هذه الثنائية التي تقضّ مضجع الشاعرة سناء و تدفعها إلى القول عبر فن الزجل كي تفضح تغولات هذا الواقع من منظور زجلي شعري يُشرّح بعضَ أوصال المجتمع للكشف عن بعض حالاته المرضِية . و من تجليات هذه الثنائية الكثيرة في الديوان نذكر التوتّر البائن بين الظلام و الضوء اللذين عبّرتْ عنهما الشاعرة داخل انزياحات بليغة بلاغةً شعبية تمتحُ بعضَ انسيابها  من البلاغة العالمة ، في مثل ربطها لمقولة الليل بالطول و العراء و الصمت المُطبِق . في حين لوّحتِ الشاعرة للضوء بمفردة إيحائية شديدة الإيحاء ، و هي القمر في حضور محتشم جعلته الشاعرة يستجدي النجمات كي يقلّص من جبروت الظلام .

ناهيك عن أطراف أخرى فاضحة لأمراض هذا المجتمع ، و ذلك من قبيل ثنائية الظلم و العدل ، الحق و الباطل ، الرحمة و الجبروت ، الكرامة و الرعونة ، الخضرة و الجفاف ، الغدر و الأمان ، الحظ الجميل و النحس ، الحب و الكراهية ، الوطنية و اللاوطنية ، و غيرها مما دلّ على وعيِ الزجالة سناء الفنيّ بكل أشكال الخلل القائمة في المجتمع و العاملة باجتهادٍ مقيتٍ على نخر الذات المغربية في صميم جوهرها حتى يتسنّى لمسلسل الفساد بسط إرادته الغاشمة على مشاريع الخير و الجمال و النقاء .

إن الشاعرة سناء لا تقف بمشروعها الزجلي عند حافات التشخيص المجاني لهذه الثنائيات العاجّة بالتناقض و العدمية و السلب . و لا عند حدود التسجيل المرآتي القائم على الوصف المنفلت أو على المقولة الهاربة ( قلْ كلمتكَ و امْش ) بقدر ما تقدّم رؤياها الفنية عبر بوابة الزجل ، تقول فيها ما ينبغي قوله من باب الاستنكار أولاً و الشّجبِ ثانيا و إرادة التغيير ثالثا . هي تبصر الواقع من خلال الفن ، و تروم طرح رؤياها المغيرة لحساسية استقبال تغولات الواقع داخل طاقة إيجابية لا تنحني لرياح الفساد و لا يفزعها حبروته . لأنها تعلم أن ما بين جوانحها حرفٌ قويٌّ و بعيدٌ و ماضٍ في تشريحه و تفكيكه و تحليله للظواهر الفارضة سلطتها على الوجدان الفردي و الجمعي معا . و لهذا اختارت ألّا يكون حرفها طيعاً لفكرة الانهزامية و لا مستجيباً للعدمية الخاوية و لا راكعاً لسطان التغوّل الاجتماعي . إنها اختارتْ حرفا قويّاً قالت في توصيفه ( أنظر اللّوحة 13 ) :

يمكن لغايا

يجيك تزنزين

يمكن حرفي

ما شبعان ادْهين

و ليني دقتو ف الجبين

ترسم حفرة الزين

و توشم ف القلب منويين

و شحيطو بلا سواك

يعمر العين.

إنه حرف يتعامل مع الثنائيات المتناقضة من باب الوعي بالذات التي لا تلين لمساومة و التي تملك كل إمكانيات الضرب على أيدي الفساد بطريقة تترك أثرا إيجابيا في الموضوع . ( و ليني دقتو ف الجبين – ترسم حفرة الزين ) . هكذا تؤسس الشاعرة لحرفها ، أي لفن زجلها داخل وظيفتين : واحدةٌ تشريحية و ثانية جمالية .

4 – جماليات الصوغ الزجلي في الديوان :

لا نستطيع أن نحاصر هذه الجمالية لا في المعنى و لا في المبنى لأن هذا الحصار من شأنه أن يفتك بالرؤية الفنية للديوان . و من ثمّة يجرنا إلى تفكيكية غير عادلة . لهذا يكون من الأنسب أن نقرأ الديوان في معناه و في مبناه و في ددلالاته داخل أفق واسع هو استحضار المتلقي في عمليات تذوقه أولا و تأويله ثانيا . و لكي نقترب من هذا الهدف الجمالي لابدّ أن نستوعب جيّداً أننا إزاء مشكلة فنية ترتبط بأداة التعبير . إن البحث في جمالية الشعر العربي الفصيح أمر مألوف و ميسّر لأننا نقرأ الفصيح داخل أداة اللغة العربية المعربة و الفصيحة و الماتحة ماهيتها من ضوابط و قواعد نحوية و صرفية دقيقة تمثل المرجعية التي نحتكم إليها في كل نشاز . و لكننا في مضمار الزجل لا نمتلك هذه القدرة لأننا نتعامل من شعر يستعمل اللهجة ، و هي المتعددة في ربوع الوطن ، و هي المشكّلة تبعا لوجدان الحزام الجغرافي الذي ولدتْ فيه و ترعرعتْ .

 ناهيك عن استعمال هذه اللهجة في التخاطب اليومي مما يوهم البعض ممّن يدّعون زجلا أن الزجل أمر سهل الإبداع مادام قد صيغ بالعامية . بل العكس هو الصحيح و السليم . فالإبداع داخل لغة التخاطب اليومي يملي على المبدع نباهة متفردة و حرصا شديدا على إحداث القطيعة داخل المألوف حتى يتسنى للمتلقي إدراك أن الزجال فلان قد أمتعنا بابتعاده عن تكرار لغة التخاطب اليومي في ديوانه ، و أدهشنا بصناعة المسافات الممكنة بين لهجته المشتركة و بين زجله المتميّز .

و الشاعرة سناء استطاعت أن تتملّص من هذه الإشكالية بأن عانقت مشروع الإدهاش الفنيّ في الزجل و عدم السقوط في تكرار مفردات التخاطب اليومي كما يصنع كثير ممّن حُسِبوا ظلماً على محاريب الزجل المغربي .

و تقدّم لنا الشاعرة ديوانها معجوناً في لغةٍ ... أو بالأحرى ... لهجةٍ تعيشُها في حياتيْن استطاعتْ أن تفصل بينهما : حياتها الخاصة حيث اللهجة وسيلة و حياتها الفنية حيث اللهجة إبداع . و هنا مربط الفرس . فقد صاغت الزجالة لوحاتها خارج سلطة العامية بأن صنعتْ لهجة فنّها الخاصّة حتى لا يختلط حابلُ اليومي مع نابل الفنيّ . ثمّ أخذت ملامح الماحول و عجنتها في بؤرة روحها المحلّقة ، و حرصت أن تطبع كل مفردة بكل الممكن من الطاقة الإيحائية حتى يخرج زجلها ماضياً مضاءَ الترياق في الجسد . و هي في هذا المشروع الفنيّ استدعت اللهجة في جناحها الدينامي القادر على محاورة المتلقي حتى لا يتمّ عزله داخل برج الاستمتاع فحسب .

و لا أدلّ على هذه الجمالية من اللوحة الرابعة ( حتالين ) حيث المساءلة سيدة الموقف ، و الغلاف المؤطر لها وخزٌ جميلٌ بلدغ أمكر . و لا يكون أمر المتلقي إلا تبنّياً لموقف الشاعرة أو تعاطفاً في أضعف الإيمان . قالت الزجالة سناء :

حتالين

وسادنا حجر

سعدنا شمر

مشطون يتعافر

لداوير الزمان يجر

احلامنا سكنتوها لمقابر

نزفت بالخناجر

مرشوڭة ف الصبر

 و السؤال هنا مصوغٌ في ذكاء العبارة المسكوكة داخل الوجدان المغربي بحمولة مكتظّة بالمضاضة و القرف من هذا الماحول المتجبّر . ( حتالين ) سؤال لهجي فني أخرجته الشاعرة من بداهة الدارجة البسيطة إلى قلق السؤال الوجودي الواضع لكينونة المتكلمة و لكينونة المتلقي في أتون المساءلة المقلقة و الباعثة على المزيد من تناسل الاسئلة الذاهبة مذاهب الحفر في أركيولوجيا الفساد ، لا المتبخرة في ضباب الامتصاص و كأنها أقراص مهدّئة أو منوّمة .

إن جمالية النص الزجلي هنا لا تؤمن بدغدغة الوجدان في المتلقي من أجل استحسان المقول . و إنما تؤمن بضرورة نقل المتلقي من حالات الصمت إلى حالات الكلام ، و من وضعيات الفرجة الخاوية إلى وضعيات المشاركة ، و من لغة الاستسلام إلى لغات الشجب و الاحتجاج .

إنها جمالية القول في شقين : شقّ الوخز و شق التنبيه .

 و لنمضِ قدما في استكناه ملامح هذه الجمالية و هي كثيرة و غزيرة في الديوان ، و نستشهد لها تمثيلا لا حصرا . و نذكر من قبيل ذلك اللوحة 16 ( ما سُوقِيشْ ) :

ما سوقيش

الى الخاطر راب

والحق ف اللْسان

اتْعابْ ...

 

ما سوقيش

الى اللّْغى خسر

و الدم  حجر

و الصح ف لخلا

اتْوضر

...

و قد تكررت مفردة ( ما سوقيش ) عشر مرات في لبوسٍ زجلي فنيّ لادغ يقدّم الموقف الوجودي للذات المتكلمة داخل الوعي المضاد للفكر السائد . كيف ذلك ؟ نحن نعلم أن مفردة أو عبارة ( ما سوقيش ) هي في الاصل عبارة استسلامية تمتح مادتها الانهزامية من ثقافة متجذرة تقول ( المصيبة إذا عمّتْ هانتْ ) على مستوى الثقافة العالمة ... كما تقول بلسان الثقافة الشعبية و بلسان الوجدان الجمعي ( دير راسك بين الروس ؤ عيطْ آ قطّاع الريوس ) و هذا كله يندرج في مسلسل تجويف الذات المغربية و إفراغها من ثقافة الموقف إلى ثقافة الاستسلام و العبثية و اللامبالاة و الأنانية ( أنا ، و من بعدي الطوفان ) .

لكن الشاعرة وظّفت جمالية الموقف داخل جمالية التعبير . فموقفها إيجابي و واعٍ بالمسؤولية ، و هي لا تزجّ بالعبارة ( ما سوقيش ) في تكرار الانهزامية المقيتة بقدر ما تحول العبارة إلى سلاح مضاد عبر مسلسل التداعيات الواصفة و الموصوفة في القصيدة لحالات العدمية و التي تختمها الشاعرة بموقف نقدي قوي . قالت بعد أن شخصتْ حالات الخرق و السلب :

ما سوقيش

إيهْ ... ما سوقيش

ؤُ بالسّيف غنعبر

و نبني عشيش

و للصبر نرش بقشيش

نعتق النية من النهيش

و العطفة من لَقْميش

و اللّي من كلامي زعفان

احسن لِيهْ

يِعيش هربان

را عضة لمعڭور

تريّبْ الشان

هكذا تحول الشاعرة الهزيمة إلى نصر ، و الخواء إلى عمار و الضعف إلى قوة ... بعد أن تستدرج المتلقي إلى خطاب الهزيمة ، لتعلن في وجهه صرخة القيام و النهوض بدل الاستسلام . إنها جماليات الموقف حين يستدعي اللغة\ اللهجة في مكرها الأدبي ، و هي تستفز القارئ و تحرّك مكامنه في أبعاد إنسانية عامرة بالخير و الجق و الجمال .

-        ختم :

هذا غيض من فيض ، لم يسعفنا مقام التقديم كي نلمّ بكل شروط الكتابة الزجلية لدى الشاعرة و الزجالة المختلفة سناء سكوكي . و حسبنا من هذا و ذاك أننا استنفرنا بعض مكونات الديوان فتحاً لشهية الكلام فيه في لاحق الإيام . و حسبنا أيضا أننا علمنا أننا إزاء شاعرة بكل القوة الممكنة لشابّة تبحث عن شكل فني لزجلها خارج الشبه القبيح و التكرار الأقبح . و إنما هي الباحثة في تحدٍّ جميل و جليل عن الأجمل في لهجتنا المغربية الحمّالة لكثير من أوجه الجمال . و لا يسعنا في هذا المقام الطيب إلا أن نتمنّى لها مسارا إبداعيا متصاعد العروج لا يعرف للتراجع في الإدهاش معنى ، حتى يتسنى لها أن تبصم الساحة الزجلية المغربية بميسمها الخاص و الجميل و المدهش .

...

نورالدين حنيف أبوشامة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...