الثلاثاء، 9 فبراير 2021

بداهات الجسد في فن الأيكيدو

 


بداهات الجسد في فن الأيكيدو



نور الدين حنيف

 ...

ليس سؤالاً سؤالٌ لا يضعنا أمام مرايا الشكّ في هذا المألوف الذي يحبس النظر عن الأمداء الممكنة في علاقتنا بذواتنا وعلاقة ذواتنا بالما حول. أقول هذا لأنني في تجربتي البسيطة في مجال فن “الأيكيدو” كنتُ أدخل الركح (tatami) مفصولا عن جسدي، وأنا أعتبره “آخرَ” يستحق كل القهر الرياضي كي يذعن لمشروعي الشخصي القاضي بتخسيس وزنه أو بترويض بدائيته، أو بتشذيب ديناميته المبنية داخل أنساق الزقاق والشارع حيث يتحكم القرين والأقران في تربيب هذا الجسد انطلاقا من ثقافة المشترك أولا ومن ثقافة المقارنة والمفاضلة ثانيا (تدخل السينما في هذا المؤثر الموسوم بالشارع حيث الرغبة في التماهي مع أبطال تاريخيين، أذكر منهم هرقل وسبارتاكوس وعنترة وغيرهم، حيث كان ستيف ريفز وفريد شوقي وغيرهما يداعبون مخيالنا بتقنيات سينمائية عالية).

 

ولقد ألفتُ جسدي قديما حتى حسبته صديقا لي ينفصل عنّي باختياراته. وقد حوّلتُ هذه الألفة يوم اعتنقتُ فن “الجيدو”، مبكرا في عقدي الثاني، ثم تبلور هذا التحول عندما اعتنقتُ فن “الأيكيدو” في عقدي الرابع، وبينهما كنت أغازل كرة القدم في بطولات الأحياء وفي بطولات القسم الوطني الثالث، وفي تفاصيل هذه المحطات كان يسكن شيطان السؤال وكان يكبر.

 

في هذا المسار، اكتشفتُ كم كانت سذاجتنا واضحةً في التعبير عن هذا الجسد، وعن رغباته في جو طغت عليه الطقوسية الفاصلة بين الذكر والأنثى… حيث كلّما تمّ إبعادنا عن عالم المرأة، كُنّا نزداد إلحاحا على تبويب فصول الجسد في اتجاه الأنثى، انطلاقا من وعينا اللاواعي بأن كل تطوّر في أي عضلة من عضلاتنا هو هدية للأنثى الساكنة فينا، أبينا أم شئنا.

 

في نضجي الآني، أرى الجسد موضوعا ملائما للتحليل، لا في تشعباته البيولوجية أو الأنثروبولوجية أو السوسيولوجية… ولكن، في فلسفته النابعة من علاقتي النوعية بأشكال الممارسة لفن الأيكيدو، وهنا يحق لي كممارس أن أخرج بقناعاتي الجسدية من شرنقات التكوين العضلي المسطّح، إلى التكوين المتسائل والمُسائل لحركية هذا الجسد النازحة من ثقافة الشرق الأسيوي، بحمولتها الفكرية الخاصة، والمختلطة بتراب مغربي عربي إسلامي.

 

تبدو مفردة الجسد أمرا بديهيا، مع العلم أن البداهة أحيانا هي مداخل شيطانية لمتاهات الأسرار وخبايا الأشياء، لأنها تترك كثيرا من الفراغات بغير أجوبة، ومنها يتعملق السؤال حتّى ولو تمّ إقباره. وقد يأتي يوم ينبثق فيه هذا السؤال ماردا لا قبل لنا بردّه. والبداهة مبطنة دائما بنقيضها: فما هو مألوف عندي مدهش عند الآخر، وما هو بديهي عندي اليوم قد يصبح مدهشا غدا لديّ في مسلسل التحولات الممكنة في إنسانيتي… وإلّا، فالحكم على جسدي بالسكونية مسألة مقبولة إذا كذّبْنا فينا ما تستبطنه البداهات من إدهاش.

 

من هنا، ضرورة تحويل النظر إلى هذه المفردة المسمّاة بالجسد، على الأقل في مجال اشتغالنا الآن، أي في مساحات ثقافة فن الأيكيدو، حتى لا نشط بالاستنتاجات بعيدا عن منطق التخريج والتحصيل. والمفاهيم هنا، وأيضا، هي مفاهيم خاضعة لشخصي لأنها مرتبطة بجسدي، وبالتالي فأي إسقاط لنتائج هذا التحليل على الذوات الأخرى ينبغي أن يحترس من التعميمات والتهويمات وإطلاق الأحكام جزافا في فراغٍ يفتقر إلى أبسط بصمات العلمية.

 

الجسد يرقص في كل فضاءات الأيكيدو. ولماذا بدأت بفكرة الرقص؟ لأنها فكرة ذات حساسية مثقلة بالحظر في ثقافتنا العربية القاضية بربط فعل الرقص بتمثلاتنا الشعبية المعجونة داخل الطابوهات التقليدية. ورقص الجسد في ركح هذا الفن يرتبط أساسا بحركات ما يسمى في أدبيات الأيكيدو بـ (tai sabaki). وهي سلسلة من الحركات المبنية بإيقاعات خاصة تمهد للممارس فكرة التحكم في الجسد انطلاقا من تمهيره على اللف والدوران في افتراض مواجهة الآخر الموصوف بالخصم في رياضات أخرى، والذي تسميه فلسفة الأيكيدو بالمشارك أو الشريك.

 

إن هذه العملية التي تتكرر في كل بدايات الحصص التدريبية هي ذاتها التي تصاحب الممارس في تطبيقاتها الافتراضية على الركح، وهي ذاتها التي تصاحبه في الملتقيات الرسمية وفي التكوينات الموسمية، وعليه أن يتقنها أمام الآخر مجسدا في المتفرجين باعتبارهم عينا مستمتعة وناقدة ومقتدية، وأمام لجان التصحيح والتقييم باعتبارهم عينا مراقبة تمتلك في نظر الممارسِ النموذجَ المثالي لهذه العملية، وهي العملية التي قد تكون حاسمة لوضعية “الايكيدوكا” وهو يتعرض للعنف في حياته اليومية. ومن ثمّة فهذه الرقصات الداخلة في بداهات التعلم تخرج من مجرد حركات للتعلم إلى سلوك يومي يخالط نسغ حياة الإنسان، ويشكل حدود تصرفه في ثقة كبيرة بأن جسده يصبح معرفة ثقافية بعد أن كان معرفة حركية فقط.

 

تكاد تتحوّل رقصة التاي سَباكي (tai sabaki) إلى طقس يتكرر في كل حصّة تدريبية، وفي كل لقاء تظاهري، محلّي أو عابر للمحلي… وفي تكراره تنتفي البداهة والرتابة بحيث تخرج هذه الحركات من مجرد إجراء تمهيري يتقن فيه الممارس فن الروغان (esquiver) إلى دينامية تخالط نسغ حياة هذا الممارس لهذا الفن، وبالتالي يصبح أمرا محالاً أن تُغَيَّبَ هذه الرقصة داخل برنامج التكوين، سواء على المستوى القريب أو البعيد في تجربة المنخرط في هذا المسلسل الحركي.

 

إن من تجليات حركية الجسد داخل منظومة الأيكيدو، أنه جسد يقوم في وجوده وفي تفاعلاته على حاسة اللمس التي تتحوّل من مجرد عملية حسيّة لإدراك الآخر وتموقعاته في سيرورة الفعل الرياضي إلى وجود مستقل يروم تدجين العنف في وجود آخر مستقل أيضا، وبالتالي يكون هذا التدجين فعلا يُمارَسُ على الذّاتِ أولاً بأوّل. ويستحيل أن نتصوّر فن الأيكيدو يتمظهر خارج الآخر الشريك على صفيح الركح (tatami) أو على صفيح الواقع. اللمس إذن معيارٌ لوجود الذاتين ولتفاعلهما باعتباره طاقة حسية في مادتها الخام تتضاعف طاقةً داخلية في غضون الممارسة وتصبح وعياً ذكيا لا آلياً بضرورة استيعاب الآخر في تحولاته المكانية، مادام الممارس يتصرف بسرعة خارقة في التعامل مع أفعال الآخر وردود أفعاله في تجدد مستمر للفعل ولرد الفعل.

 

من هنا نفهم قوة هذه الحاسة وهي تشكل فعل الجسد داخل فن الأيكيدو، وتصوغ ملاحظاته البسيطة والمركبة لجسد الآخر، في معرفة سيكولوجية بسيطة لسلوك الآخر، وفي معرفة نقدية أيضا لتمظهرات أخطائه التي تتحول إلى مؤشرات بنيوية لعلامات الجسد وهو يتشكل كائنا يحمل المعنى ونقيض المعنى، وكلاهما شفراتٌ تفضحها حاسة اللمس… يتبع

ملاحظات عابرة في فن الخط العربي

 


ملاحظات عابرة في فن الخط العربي



 نورالدين حنيف

 

 1 -  يتميّز الخط العربي بقدرته على الانسياب التشكيلي في مساحات انزياحية تمتد من شرنقات الحيّز الورقي إلى رحابة الامتدادات البعيدة في ذهنية المتلقي ، في تكوينٍ جماليِّ يمارس تموجاته المترنحة ، آناً ، في وضوح تسطيري يدغدغ عاطفة القارئ السطحي ، و آناً ، في تجلّياتٍ زئبقية تحقق نوعا من التوتّر الجميل في أنساق التلقي … من هنا عبقرية هذا الخط – دون ادّعاء تفرّده الشوفيني بهذه الخاصّية – لكنه يذهب بها بعيدا في اجتهادات نوعيّة تجعل المتلقي في وضعية المُحاوِر لإمكانيات اكتشاف الأنماط الخطيّة التي تسبح فيها كفُّ الفنان و روحُهُ معاً … و مثال ذلك قدرة بعض الحروف على الخروج من دائرتها التقليدية الموسومة بالهندسة الأكليدية إلى قابلية الانرسام العبقري الهيولاني الدائري الحلزوني المفتوح دائما ، و القادر ، إبهاراً ، على احتضان مجموعة من الحروف في تجانس غريب غرابة جمالية ذات حمولة استيطيقية دلالية ، لا غرابة فرجة فولكلورية

 

2 - إن ما يحدث من تراكم في الإنتاجات التشكيلية في مجال الخط العربي الإسلامي ، لا يعدو أن يكون احترافا يمارسه حرفيون متمكنون من آليات الخط العربي و ضوابطه و قياساته و ورقه و أقلامه و أنواعه و أضربه و هلمّ جّراً مما يدخل في علم الخط العربي و قواعده ، و الذي يحسب له ألف حساب في التراكم الإبداعي الحضاري الكوني … لكننا في هذا السياق نود الإشارة إلى إمكان النقد الباني لا في تهجم نرجسي و لا في تحامل مرضي ، و إنما في توجّه مسؤول و غيور على حِمى هذا الفن الجميل … من هنا أقول إن الاحترافية وحدها لا تكفي لنبني ثراءً و تراثا تشكيليا متميزا لا على مستوى النوع فحسب و إنما حتى على مستوى الخطاب … ما أقصده هنا هو ضرورة البحث عن تشكلات الفن الخطي العربي داخل الخطاب ، حتى يتم إخراجه من شرنقة المعنى . و الفرق بين هذا و ذاك فرق شاسع لا مشاحة فيه و لا جدال … الأول ، و أقصد ” المعنى ” تبدو فيه اللوحة الخطية جزيرة معزولة عن الجسد الكوني الباني لنسغ الإنسان العربي في خصوصية مستقلة بهوية تشييدية لا بهوية جاهزة ، كما تبدو فيه اللوحة عروسا مستكينةً إلى قدر الفرجة ، حيث المتفرج أو المشاهد يمارس نوعا من الذكورية الهجينة على كل الخلق الجميل الذي تحتضنه اللوحة ، في غياب نظر فني ناضج … و في هذا السياق تتحول اللوحة الخطية إلى بؤرة منزلقة مليئة بثقافة الاستدرار للحظات العجائبية و الغرائبية سواء تعلق الأمر بمشاهد عربي من صميم اللحمة العربية ، أو تعلق الأمر بمشاهد أجنبي يمارس على فن الخط نوعا من السادية الفنية و هو يعزل تراثا كبيرا بهذا الحجم داخل شرنقة الغرائبي المدهش في نسق الدغدغة لعاطفة عابرة لا في نسق المحاورة الثقافية … و في الثاني و أقصد ” الخطاب ” تبدو اللوحة الخطية كائنا فنيا يمارس نوعا من التميّز و الحضور المستقل و الهوياتي و المندمج في المساءلات الكونية لا من باب الاندهاش و التقليدانية و الإعجاب الدوني و الاستلاب الرخيص ، و إنما من باب المثاقفة المؤسسة على فكرة التدافع … و التدافع هنا يسقط من حسابه كل أشكال الصراع الحضاري ، القائم على فكرة الصدام كما ذهب الى ذلك ” صمويل هنتنجتون ” و تلميذه ” فرانسيس فوكوياما ” ، على اعتبار أن الصدام يلغي الآخر فيما التدافع يبقي عليه حتى تستقر الحضارة على الأصلح دون القضاء على الآخر …إن الخط العربي مسؤول جدا عن حضوره كقوة مدافعة عن التراث و الهوية العربيين و الاسلاميين في رؤية تتبنى فلسفة التغيير لا شعارات الفن البرناسي المتعالي على هموم الإنسان العربي الإسلامي …هكذا تتبدى على السطح قوة الواجب قبل قوة الحق … واجب الذود عن الهوية العربية الإسلامية خارج الإمتاع ، و خارج الاندهاش و خارج السلبية المستحضرة للآخر في مرايا التميز الصوري … لا بد من الانطلاق من رؤية استراتيجية في بناء الفن و بدون رؤية تتسع بقع الضبابية و تضيع الطريق … إن فن الخط العربي الذي اكتسح الذائقة العالمية الآن هو نفسه الخط العربي الذي يخلط بين الفنان الاحترافي القابض على آليات الرسم ، و بين الفنان الممتلك لقوة الخطاب ، و هذه القوة لن تتأتي إلا بامتلاك رؤية واضحة للذات و للوجود و للآخر و للعلاقات المفروضة حضاريا بين هذه الأقانيم الثلاثة في محاورة نديّة لا في استجابات انفعالية

 

3 -  ليسَ خطّاطاً أو فنّاناً في مجال الخط العربي من يبدع عملا فنيّاً ثم يدعونا إلى استهلاكه في سلبيةٍ استمتاعية رخيصة ، أو في استمناءٍ جمالي محدود ، تنتهي صلاحيتهما بانتهاء مسلسل الفرجة . إن الفنّان الفعلي هو من يرسِلُ إبداعه طائرا بأجنحة من ذكاء ، تدْعونا دون قصدٍ إلى قراءة بؤر الفنّ في هذا التحليق ، و تستبيح كل بكارات المخيال عندنا كي نرسم معه اللوحة في اكتمالها و في تجلّيها الجمالي الجمعي ، و تفتح أمامنا كل إمكانيات التأويل لعمله الفني .

 

العمل الفني ، و خاصةَ البصريّ منه ، هو عمل ماكر ، يخدعنا في سطحيته الأمكر … لهذا لابد أن يكون الرهان فيه هو تجسير التواصل معه عبر إمكانيات التأويل لمغاليقه و لمساربه و لاستغلاقه و لانفتاحه أيضا ، في اتجاه المساهمة في بناء رؤية تفاعلية تتسم بالدينامية عوض الستاتيكية المنخلقة في جنينية الألوان و الأصباغ التي اقترحتها ذائقة هذا المبدع .

الفن ، و من منظور حركي لا بد أن يخرج بالمُنجز الفنّي من شرنقاته الخصوصية الضيقة القابعة في ذهنية المبدع ، إلى حيوات ، تستدرج ثقافة المحاورة التي تُشغّل ذهنية المتلقي أيضا ، و تدعوه في لباقةٍ سيميائية إلى ممارسة التأويل لا كحق مشروع ، فحسب ، و لكن و أيضاً ، كواجب أنطولوجي يتحدد أساسا في الإيمان بالنقص الذي يطال كل عمل فني ، الذي لا يكتمل إلا بمعية المتلقي الذكي .

ما مسوّغُ هذا التحبير ؟ إن التأويل يأخذ مصداقيته من العمل الفني ذاته ، لأن اللوحات الفنية الآتية من سديم الخط العربي أو من سديم الرسم و التشكيل ، هي مجموعة من الرموز بخلاف النصوص المقروءة و التي تحبل بالرموز لكن بدرجة أقل ، لأن اللغة تحمل معجمها الشارح و المسهّل لعمليات التلقي ، و التي لا تستعصي إلا في عالم المتون المفعمة بالانزياح … أما لوحات الخط العربي فهي كتلة من الرموز ، و التي لا تقف عند حدود الأحرف العربية المتراصة و المؤدية للمعنى … هي أكبر من ذلك ، إنها عوالم فنية مبطّنة بكثير من الرؤى … من هنا ضرورة التأويل ، باعتباره إضاءات قويّة لكل ماهو فنّي آتٍ من لاوعي المبدع و وعيه بدرجة ثانية .

التأويل ، ليس تقليعةً يمارس فيها المحلل قدرته على التعسف على العمل الفني في تسيّبٍ لا ضابط له … التأويل منهج لقراءة الأعمال الفنية العامرة بالدلالات و الأبعاد . من هنا وجب تقدير سلطة التأويل في حدود القراءة المنتجة و المضيفة و الداعمة للفن قبل أن تكون قاضيةً عليه قابضةً على تلبّسه في أقفاص الاتهام

 

4 - يقول بعض المحسوبين على مجال النقد الفني ” إن التقارب بين رسم الحروف يقود الى تحريف بعض الكلم كالذي يحصل بين الراء والدال والحاء والميم ” … إنّ مثل هذه الخرجات  بعيدة كل البعد عن موضوعية الطرح و علميته لأسباب ، منها ، أولاً: انّ خطاب التشكيل العربي يقتضي متذوقا عربيا ملمّاً برسم الحروف العربية و بالتالي فنسق التلقي يتطلب متلقيا عارفا قادرا على التمييز بين حرف الراء و الدال و بين حرف الميم و الحاء على اعتبار أن من يعرف الأصل يسهل عليه معرفة تقلبات هذا الأصل و تموجاته و تحولاته الجمالية الانسيابية في سياقات متعددة لا تحول دون استيعاب المتذوق لنواة الحرف مهما تغيرت ملامحه ، ذاك أن معرفة الفرع هي من جنس معرفة الأصل … ثانيا : إذا كان المتلقي عاديا من البسطاء الذين لا رصيد لهم في التلقي الجمالي فإن الأمر لا يعدو أن يكون عتبة عابرة ، فقد يكفي أن يتم توجيه هذا المتلقي بإشارة بسيطة بإحالته إلى موضوع التشكيل ليستكمله ، هو ، بانسيابية فطرية لا يعوقها عائق ، مادام هذا المتلقي العادي محملاً بمشتركه الثقافي و تمثلاته الذهنية للمنطوق ، فيسهل عليه تحويله إلى مقروء طوع البنان … ثالثا : إن رسم الراء يختلف عن رسم الدال في كل الأنماط الخطية و ربما يود هؤلاء التلميح إلى الرسم الديواني الذي يمثل لديهم حساسية مغلوطة … فالراء في الديواني لا علاقة لها بالدال الديواني مهما تقاربا لأن المسألة ترتبط بتكوين الحرف لا بتفرعاته

 

5-  خارج رهان الجمال ، ماذا يمكن للفنان المتهم بالخط العربي أن يبحث عنه من رهانات ؟ إن سؤالي هذا يمكن أن نقرأه في صيغةٍ أخرى أكثر جرأة : هل يكتفي الخط العربي بالتعبير عن ذاته داخل ثنائية الإمتاع و المؤانسة ؟ فحسب ؟ و هل لنا الحق في مساءلة المتهمين به و المالئين ساحاته بإبداعاتهم الغزيرة ، لنقول لهم : كيف يمكن لكل أشكال الإبداع المتعلقة بهذا الفن أن تساهم في التغيير ؟ و سؤالي هذا سؤال آثمٌ لأنني أرفض أن ينبري لي أحد من السّدنَة الحاملين لفكرة الوصاية و يقول لي : إن فن الخط العربي يكفيه وجوده ” البرناسي ” المتعالي عن هموم الإنسان العربي و الإسلامي بشكل عام … و يكفيه أنه سليل ثقافة دينية حمتْ التراث و نافحتْ عنه … لا ننكر هذا البتّة ، و نثَمّنه أيما تثمين ، و لكن لا أحد له الحق في أن ينكر علينا حق المساءلة و حق البحث عن إمكانٍ آخر أكثر توغلا في نسغ الإنسان و هو يمارس هذا الفن سواء من قبيل الإنتاج أو من قبيل الاستهلاك أو من قبيل إعادة الإنتاج … إن هذا التراكم الحاصل في سيولة الإبداع في مجال الخط العربي تراكم جميل و جليل و قوي الحضور ، لكنه في نظريات التغيير إذا لم يتحول فيه الكمّ إلى كيف ، فإن السؤال سيكبر فينا و يتعملق جدا . و نحن في هذا السياق لا نملك القدرة على صناعة البدائل بقدر ما نملك فقط بعض القدرة على المساءلة في أفق بناء الإنسان العربي الإسلامي

 

6 - نظرا للرداءة التي بلغَ سيلُها زُباها في رسم أبنائنا للخط العربي في كراريسهم اليومية ، أصبح من الواجب التفكير في إبداع حلول لهذه الأزمة التي يبدو للبعض أنها جانبية لا تؤثر على الناشئة و على هوياتهم و امتدادات هذه الهويات … فيما الأمر إشكالي و عميق … من هنا ، يصبح التفكير في الحلول الموسمية أو الترقيعية أو المعالجات المعزولة عن السياق الجمعي الحضاري العربي الإسلامي … تفكيراً مجرّداً من صيغِهِ المسؤولة و الغيورة ، و يتحول إلى مجرد صرخة باهتة في وادٍ أبهت … إن المسألة لا تتعلق بناشئة لا تتحكم في رسم الحرف العربي ، بقدر ما تتعلق بصيرورة وجودية تنغرس يوميا في ثقافة الاستلاب الحضاري … والأمر موكول لصناع القرارات الثقافية الوازنة ، بضرورة التفكير الجاد في إطلاق مشروع عربي اسلامي كبير تحت عنوان ” خطّ عربي جميلٌ للجميع ” على غرار مشروع ” قراءة للجميع ” … مشروع تتجند له كل الطاقات المؤسسية و كذا المدنية كي ينحج باقتدار .

 

 

 

السياسة لا تقبل الفراغ

 



السياسة لا تقبل الفراغ

نورالدين حنيف 

...

( صديقي ، رجاءً لا تحدثني بعد اليوم عن الشفافية في مسلسل الانتخابات السياسية ، و لا تحدثني عن المشاركة في المشهد السياسي و لا تحدثني أساسا عن الديمقراطية و المواطنة و ما شابه ذلك . إنها مجرد أوهام استنفذت أغراضها و فشلت في التعبير عن تطلعات الشعوب و أحلامها )

مثل هذا الرد ، غالبا ما يستحث فينا الرغبة في التعاطف مع قائله انطلاقا من وعينا أنه راكم كثيرا من مشاهد الفشل السياسي ، و من ثمّة مشروعية طرحه مادام قد أصيب بالخيبات تلو الخيبات و فقدَ معها ثقته في الساسة و السياسيين و الناس أجمعين .

و مثل هذا الرد أيضا ، قمينٌ بأن نرفضه جذريا لأنه يكرّس حالةً انهزامية تترك فراغا في الطبيعة غالبا ما يتم ملؤه بمن يناسب من متسولي اللعبة السياسية و متطفليها .

و مثل هذا الكلام كثير ...

و هو على صدقه و مضاضته ، كلامٌ بمحملين : محمل جاد و آخر أكثر جدية . لكن الأمر لا يعدو أن يكون وهما بالمصداقية لأن هذا النوع من الرد هو اللاموقف بالذات الذي ترغب مجموعات الضغط الناعم أن يصل إليه المواطن و يتبنّاه ، لخلق حالة من الشلل العام في أوصال المجتمع ، بدءاً بإحساس أفراده بلاجدوى المشاركة ، و مرورا بالانسحاب من المشهد السياسي و انتهاء بالدعوة إلى هذا اللاموقف و نشره كبديل سلبي ينطوي على وهم الانتقام من صانعي هذه الحال .

و النتيجةُ ، أنْ تخلوَ الساحة لهذه المجموعات الضاغطة كي تنعم براحة البال في تسييس المجتمعات وفق تصورها الخاص المبني على نظرياتها الأخص بأهدافها و غاياتها الأكثر خصوصية .

إنّ هذا اللاموقف قد يبدو للبعض مجردَ عبورٍ ، و نفْخٍ في الهواء ، على اعتبار أنه صيحة في واد لا تؤثر في مسلسل الديمقراطية أو اللاديمقراطية بدعوى أن الطبخة مهيّأة مسبقا و جاهزة ... و ما هذا الحوم حولها إلا تكملة للمسرحية الساخرة من أذقاننا . إننا ننسى أن هذا السلوك هو مثل الحصاة المفردة و اليتيمة التي لا نلقي لها بالاً ، و نحتقر وجودها انطلاقا من حجمها المتناهي في الصغر ... و ننسى مع هذا التخريج القول العربي الحكيم ( لا تحْقِرَنّ من الأمر صغيرةً ، إن الجبال من الحصى )

فلنتصور إذن جبالاً من الصمت و العزوف عن المشاركة في بناء فكرة هذا الوطن .

الكلامُ  و ما شابهه ، هو أيضا لاموقف سلبي ، لا يعبر عن حالة مفردة معزولة طائشة في مسلسل المواقف اللامسؤولة ... إنّ وراءه أكمةً من البناء لا يعيها هذا اللاموقف ،  و ترتبط أساساً  بقبضة المجموعات الضاغطة هناك ، حيث المجهول \ المعلوم ، و حيث تتبدّى من خلالِ ظلالِها فينا ماسِكةً بخيوط اللعبة ، تنسجها نسيجا واعيا و مدركا ، في اتجاه خلق مثل هذه المواقف ، و التكثير منها ، و تحويلها إلى قاعدة بعد أن كانت نشازاً ، و إلى صوابٍ بعد أن كانت خطلا . إنّ هذه المجموعات الضاغطة لا تشتغل بآلية الصدفة و إنّما تضعُ المقدمات المناسبة لحصاد هذه النتائج الأنسب .

إنني عندما أَعْبُرُ المشهد السياسي بهذه العقلية ، أكونُ لا أُعَبّر عن موقف مبني من وعيي بالمسألة ، و إنما أكونُ محكوماً بردود فعلي الاندفاعية البعيدة عن العقل ، و التي درسَتْها تلكم المجموعات الضاغطة درسا دقيقا لا تغفل فيه صغيرة و لا كبيرة لبناء إنسان عربي مسلم مسالم مفرغ من المعنى ...

و النتيجة أنني أدخل في حالة نفسية ترفض كل شيء في غير وعي ... ترفض من أجل الرفض فقط ، في سلبية هدّامة لا أشعر بهدمها ، لأنني أتلذّذ بوهم انتصاري على المشهد السياسي الذي تركتُ فيه فراغاً مُهْولاً ، حسب ظنّي الساذج . و بالتالي لا تستطيع ذاتي أن تبني موقفا و لا أن تبرر موقفا و لا أن تذود عنه .

هذا توصيفٌ تشخيصيّ لحالٍ اجتماعيةٍ تنتقل من المفرد إلى صيغة الجمع ، و فيها يتبدّى المواطنون  كائنات يُفْعَلُ بِها التشويهُ و تُخْرَجُ من طبيعتها البشرية و الإنسانية إلى طبيعةِ القطيع . و هو الحشد الذي يُطلق عليه الباحثون في المجال السياسي ( الرأي العام ) . و هذا الرأي العام هو الإشكال الموضوعي الذي يستحق أكثر من درس و بحث ، لأنه هو صلب العلاقة بين القادة السياسيين و المواطنين المسوسين . إذ كيف لنا أن نستسيغ فكرة التخلي عن المشاركة السياسية و نحن مادّةُ هذا الرهان و وقوده ؟ كيف لنا أن نترك قضايانا الجوهرية و المصيرية يتحكم فيها غيرنا ؟ من هنا قوّة الطرح الإيجابي الداعي إلى المشاركة ، لأننا إن لم نبادر ، فسيبادر غيرنا ، و إن تركنا الفراغ فسيملأه آخرون ، لا لهم في الطحين السياسي و لا في العجين . و لهم في الطحين و العجين البشرِيَيْن ...

يصل هذا الرأي العام المشكّل من مقولات مواطنية متفاوتة في الوعي السياسي ، إلى درجةٍ من التعقيد السياسي غير المفهوم إلا في مجال التحليل النفسي ، من حيث إدراك حجم الخسارة السياسية و نحن نتخبّط في أتون الجهل و الابتعاد عن الثقافة السياسية القاضية بصناعة المواطن الممتلك للأقلّ الضروري من المعرفة السياسية المؤهِّلَة لتوطين الذات في مسلسلات السفر إلى صناديق الاقتراع ، التي لا تعدو أن تكون سفرا إلى صناديق الحياة . و هو الأقلّ الضروري الذي يمكّننا من الإبحار في المشهد السياسي و فكّ طلاسِمه المُموِّهة ، و بالتالي فكّ ألغازه المركّبَة و البعيدة الرؤية .

خارِج هذا السقف الحالمِ بالمواطن المستنير ، و الذي لا نقصد به بتاتاً ذلكم المواطن المثالي ، نكون أمام رأي عام تُقدّمُهُ السياسةُ القائمةُ شبحاً متخيّلاً داخِل حشدٍ سمّاه ( ريتشارد نيكسون ) بالأغلبية الصامتة . و هو الحشد الذي شكّ ( بيير بورديو ) في وجوده ، و اعتبره مجرّد خرافة اجتماعية و سياسية .

...

نون حاء

فن الخصوصية في رياضة الأيكيدو

 



فن الخصوصية في رياضة الأيكيدو

...
لا يمثّل فن الأيكيدو ذاته في التجارب الأولمبية و المنافسات العالمية التي تخضع في شروط وجودها لمجموعة من المعايير ، و نقصد بذلك معايير التنقيط المبنية على عمليات التحصيل سواء تعلّق الأمر بنقط التهديف ( كما هو الحال في كرة القدم و كرة السلة و المضرب و غيرها ... ) أو تعلّق الأمر بنقط الإصابة كما هو الحال في الملاكمة و الفولكونتاكت و الكاراتيه و غيرها ... ) مما يؤهّل هذه أو تلك إلى الدقة في التمييز بين الفائز و غير الفائز ... بمعنى أن رياضة الأيكيدو رياضة غير تنافسية بالمفهوم المرتبط بالمُغالَبة و بالغَلَبَة .
هذا ما يضفي على فن الأيكيدو طابع التميز ، فهو ليس رياضة قابلة للتسييج داخل خانة الوزن أو الجنس ، أي أنه لا يقبل المقولة التفيئية (catégorisation) لأن ذلك من شأنه أن يسلب هذا الفن قدرته على التكيف داخل أي مواجهة كيفما كان شكل أطرافها و كيفما كانت صفاتهم . و من ثمّة فلا وجود لرياضة الأيكيدو الخاصّة بالنساء أو بالأطفال أو بالشيوخ ... أو ما شابه ذلك ... الكلّ ينصهر في بوتقة التفاعل و الكل يراقص الكل في هذه المحافل الذكية حتى لأّنّ الكهل المتمرّس لا يمكنه أن يستصغر شأن طفل يريد أن يتفاعل معه بحكم الاختلاف الفيزيولوجي أو أي اختلاف آخر .
و فوق هذا و ذاك ، فإن فن الأيكيدو لا يحتاج إلى منصّات التتويج كي نفرز في مجموعة المتنافسين بين من فاز و من خسر ، في حفل عمومي يقابل المشهد الرياضي بالتصفيق و الصفير .
هكذا فشأن الأيكيدو مختلف جدّاً ، إذ لا وجود في أدبياته لمفهوم الخصم و لا لمفهوم الضربة أو اللكمة بقصد تحصيل التهديف المعياري القابل للقياس داخل منطق الربح و الخسارة . الأيكيدو كله ربح و فوز و انتصار ، لكن هذه المقولات لا تنصبّ و لا تتوجّه ضدّ الخصم بقدر ما تنصبّ على الحياة في كلّها و جلّها .
اللقاء الرياضي في فن الأيكيدو لقاء مبني على تبادل الخبرات ، عبر الدخول السلمي في سديم التفاعل المنسجم ، من خلال ممارسات متعددة تنضوي تحتها تقنيات الهجوم و الدفاع و الرقص و الحركة و المراوغة و الانسحاب الإيجابي و الدوران المتناغم ... قصد صناعة المتعة البانية و الهادفة و الفيلسوفة في حوار جسدي و روحي يستثمر كل الدوائر الممكنة المتخلِّقَة داخل رحمٍ خاص هو علاقة الممارس ( uki) بشريكه ( tori) ... و هي المتعة البعيدة عن الاستهلاك العابر المرتبط بلحظة الممارسة الضيقة داخل الركح ( tatami ) و إنما تتجاوز ذلك إلى استثمار الكائن و الممكن الرياضي و الثقافي حتى يتسنى للممارس و للشريك تحويل لحظة التفاعل إلى هوية رياضية لا يستقيم أمر الفصل فيها بين طرفيْها .
في رياضة الأيكيدو ليس هناك ممارِس دائم ( uki) و ليس هناك مُمَارَسٌ عليه دائم ( tori) ، إذ يتبادلان في وعيٍ رياضيٍّ نوعي الأدوارَ ، فينقلب ( الأوكي ) إلى ( توري ) و العكس أيضا صحيح ، لأن هذه الرياضة غير التنافسية مبنية أساسا على الحوار الجسدي و الروحي لتتويج اللقاء بقناعات قابلة للقياس لا في عمليات التنقيط و لكن في طقوس الإتقان لتقنيات تبادلية تعوم في التفاعل و لا تعوم في التنافس لإلغاء الآخر كما في الرياضات الأخرى التي يتحول فيها الرياضي إلى آلة بشريّة مهارِيّة ، همّها الوحيد هو إقصاء الآخر من حلبة التنافس إقصاءً لحظيا ومشروعاً لا علاقة له بصراع الهويات .
إن فكرة الإتقان لهذه الطقوس في فن الأيكيدو ليست فكرة هيولانية أو زئبقية متروكة لمزاج الممارسين و اختياراتهم العشوائية . إنها فكرة مسؤولة و تعتمد على مرجعية موغلة في التاريخ و تمتح من نقطة أولى بائنة تُخفي أصلاً غير بائن ، و يتعلق الأمر بنقطة البدء التي أسسها الشيخ الأول (Morihei Ueshiba ) و رسّخ لها تقاليدها المتواترة لحدّ الآن ، و طوّر معالمَها مريدوه الذين تحولوا بدورهم إلى شيوخ في هذا الفن انطلاقا من اكتسابهم العالِم لتعاليم هذه الرياضة في عمقيْها الفلسفي و الميداني ، و انطلاقاً أيضاً من تطبيقها في حرفيتها أولا و ثانيا في قابليتها للتعديل و التشذيب و الإضافة الممكنة بحكم تأسيسها على المرونة و اختزانها لأنوية التجديد .
من هنا حكمة الشيخ في مراقبة حركة المريد المبتدئ و تقييمها داخل صورة الحركة \ الأم . و لنضرب على ذلك مثالاً هو حركة ( شومان ) التي يسددها الممارس إلى شريكه تجاه وجهه ، أو العكس ، في منظور تبادل الأدوار ... و هنا تبدو حركة أو تسديدة ( شومان ) فعلا قابلاً للقياس انطلاقا من حساب زاوية رفع اليد و إعدادها و تصويبها بدقة ، بحيث إذا انحرفت قليلا عن محور مسارها و قبل ذلك عن محور ارتكازها ، زاغتِ الحركة و أصبح لزاما على الشيخ التدخل للتقييم و التصويب و التصحيح . و بالتالي يدخل هذا الأخير في تجربة جديدة أسميها التقويم الذاتي و هي التي تنقل الممارس من مستقبل إلى مرسِل ...
ماذا يقع في هذا المسار الذي يبدو لقارئ متسرعٍ ، مجرّد تحصيل حاصل ؟ ...
يقع أن ينطبع في ذهن المتلقي و يترسخ في ذاكرته الوجه الحقيقي لتسديدة ( شومان ) و يربح بذلك ، لا صورة ( شومان ) الحاضرة أثناء الممارسة فقط ، بل صورتها الذهنية المتوغلة في التاريخ و التي يتداعى معها في سياقات خاصة طقس الشيخ القديم بحمولته الفلسفية و هو يمارس هذه التسديدة ... و قِسْ على ذلك ، أيها القارئ ، باقي التقنيات و التفاعلات الأخرى ، مما يعطينا انطباعا شبه حقيقيّ بالأجواء التي تخيم على جماعة من الممارسين لهذه الرياضة النوعية و هم يرتفعون على صفيح الركح الواقعي لمعانقة الركح التاريخي .
هناك مشهد إيجابي في عالم الأيكيدو ، قائم ما قام هذا الفن ، و هو المتعلق بالممارس الذي يختار هذه الرياضة دون غيرها ، فهو يختارها لا ليبرز عضلاته و انتصاراته و إنجازاته التاريخية ، و لكن ليحقق ذاته في ذوات الآخرين ، أو بعضاً من هذا الأفق ، المتشظي و الغابر و المشتت داخل اليومي القاهر ، في انتظار أن يستكمل تحقيق هذه الذات الجمعية في تكاملها و تناغمها بين الأقنوم الأصغر ( ذات الممارس ) و الأقنوم الأكبر ( ذات الجماعة ) و الأقانيم الأخرى المرتبطة بسياق الأيكيدو في وعيه بذاته الفوقية كأقنوم التاريخ و الفلسفة ، و أقصد تاريخ الأيكيدو و فلسفة الأيكيدو .
و نحن في هذه القراءة لا نقصد بتحقيق الذات شروط وجودها الحضاري كشكل من أشكال الكينونة المرتبطة بالدين أو الفلسفة – مع العلم أنّ هذا مبحث لا ننكره و التقاطع معه واردٌ جدّاً – و إنما نقصد تلكم الغاية المرتبطة بعملية التحكم في آليات الجسد في علاقته بالروح التي لا ندّعي أن الممارس البسيط يدخل الركح و هو محمّل بهذه الغاية في هذا العمق و بهذا الحجم التنظيري ... إن القول في هذا ينبغي أن يُقرأ في موضوعيته التي تسيّج النظر داخل إمكان الحوار مع الجسد ( الذاتي و الغيري ) محاورة لا تهيم ، و لكنها تتفاعل حقيقةً و واقعاً و ممارسة ميدانية ... و النتائج النظرية هنا مجرّد عمليات استنباط تروم قراءة فن الأيكيدو الذي تتعامل معه كثيرٌ من الذوات من باب البداهة و الألفة و العادة . و هذه الثلاث رغم طابعها التفصيلي البسيط إلا أنها فاتكة بالممارسة التي يبتعد فيها ( الأيكيدوكا ) عن طبيعة هذا الفن و عمقه بالتالي يفقده فرادته و تميّزه .
و الجسد غايةٌ في ذاته و في غيره و ثالثا في حواره ... و رابعاً أساساً هو الجسد المتكلم عن روحه ، كلاماً يختلف من ممارس إلى آخر و قد يختفي عند البعض و يظهر عند الآخرين و لكنه حاضر إما بالقوة أو بالفعل :
- هو جسدٌ يعبّر عن الخارج ، على اعتبار أن الرياضي عندما يدخل في مسلسل التخسيس مثلاً ، فهو يدخل في شبه صراع مع هذا الجسد الذي يتحوّل إلى آخر ، و يتمثّله موضوعا غير موغوب فيه ، على الأقل في وضعيته المنتقدة ، و يتمّ تصوّره خارجاً ينبغي أن يُقهر و موضوعاً لا تعترف به الذات و لا تعرفه أحيانا .
- هو جسدٌ يعبّر عن الداخل ، الجواني ، على اعتبار أنه جزء من هذه الكينونة الواعية بحضورها المائز و المشدود دائما إلى الرغبة المحاوِرَة لفعل التحول ، و الذي يصبح عند الممارس ديدناً مسؤولاً عن إخراج الجسد من حالةِ التشيؤ إلى حالة الثقافة ... و في هذه الوضعية الجسدية يتقلّص الإحساس بغرابة الجسد الذي رسمته الحالة الأولى أعلاه حيث يتحول الخارج إلى جوانية مرغوبة ، و البرّاني إلى داخل مقبول .
لا نقصد بحالة الثقافة وجهها التراكمي العالم أو غير العالم ، و إنما نقصد صيرورة التبدل من الحالة الجسدية الذاتية ، إلى الحالة الموضوعية ، و بعبارة أوضح ، نقصد التحول من وضعية المخاصمة إلى وضعية المصالحة ، و من الطبيعة إلى الصناعة الإنسانية لفعل المحاورة المتصالح و المتسامح و المرن في قبول ظاهرة الجسد في شكلها المُرَوّض و القابل لصياغة تجانسه صياغةً يصبح فيها الممارس مالكا بعد أن كان مملوكا .
إن ملكية الجسد في فن الايكيدو لا تتحقق بقدرة الممارس على اكتساب جسد كامل الأوصاف و مفتول العضلات و متكامل البناء ، و قوي ، و متماسك و متناسق في أجزائه و في تفاصيل أجزائه ... بحث يمكِّنُ صاحبه ، سواء أكان ملاكما أم سبّاحاً أم لاعب كرة ... من فرض حضوره انطلاقا من حضور جسده كشرطٍ أساسي لفعل المغالبة و الغلبة ، إضافةً إلى مهاراته في فن تخصصه . إن ملكية الجسد في فن الأيكيدو مختلفة و عميقة و لا تمثل شرطا وحيدا في الممارسة (مثالُ العميان الذين جرّبوا فن الأيكيدو و أتقنوه ) بمعنى أن الأيكيدو ليس مُلْزِما باكتساب جسد كامل الأوصاف بقدر ما هو ملزم باكتساب حالة قصوى من التصالح مع هذا الجسد انطلاقا من فلسفة هذه الرياضة التي تعتبر الجسد في بعض محطات الممارسة ثقلا يتحوّل ضد صاحبه و بدل أن يكون قيمة مضافة يصبح نقطة ضعف ، خاصة إذا علمنا أن بعض التقنيات في هذا الفن تعتمد على قراءة جسد الشريك في ثقله و زاوية انسيابه المتدفّق بغير روية ، حيث يُقابَل اندفاع الكتلة بحركة ذكية تقوم على المراوغة ، فينقلب السحر ضد الساحر .
و كلّ قارئ للفعل الرياضي و الفني لظاهرة الأيكيدو ، يدرك أنها ظاهرة ، بخلاف فنون القتال الأخرى ، لا تتخندق في مجال المواجهة المتوّجة بالفوز ، و التي تنتهي في أهدافها القريبة إلى بناء التاريخ الشخصي لممارس هذه الرياضة القتالية . أما في رياضة الأيكيدو فالأمر يتجاوز هذا الأفق التتويجي إلى آفاق أكثر عمقا و ترتبط بغايات بعيدة تمزج تربية الجسد بتربية المعنى في باقي الطاقات الإنسانية الكامنة في الإنسان \ الممارس لهذا الفن . كل ذلك في منظومة تربوية تبحث عن حقيقة فعلية لما يسمى بالتناغم .
...

تخطيط الفوضى في قصيدة النثر

 


تخطيط الفوضى في قصيدة النثر

نور الدين حنيف

 قصيدة (ماذا لو) للشاعر المغربي عبد الرحمان بكري نموذجا

 

في سيمياء السؤال (ماذا) تتيه لحظاتنا القارئة وهي تحاول القبض على المعنى… ثم تأتي الأداة الشرطية (لوْ) متواطئةً، لتردم ما بيننا وبين هذا المعنى… فنضيع مثل أيتام في مأدبة الكرام حيث تنهال علينا أصانيف الطعام من كل حدب وصوب. وليس الطعام إلا ما ينثال علينا في متن هذه النثيرة الموسومة بالإدهاشِ، من خبايا المعنى وخفايا الدلالة ووصايا الأبعاد.

لننظر… حتى لا نشطّ بعيدا خارج النظر.

بين التحليق (المنطاد – الغيمات) والانشداد إلى (الدوائر – الاحتواء -النهدان) تقرر الذات في غير إرادة، أن تنتج العلامة الآبقة عن كل قبض قاموسي يحتجز الدلالة في أقفاص الاستيعاب المجاني. تقرر، أن تنسلخ عن جاذبية التراب، لتحلق بعيدا، لا في سماوات أخرى تتيح أقوى فرص التحليق فحسب، وإنما، وأساسا، تتيح فرصةَ معاندة الريح ومجاراتها في مروقها القويّ (لتحاكي أسرار اصفرار الريح).

تحتكم هذه النثيرة في آليات اشتغالها وانبثاقها إلى ما يلي:

1 - تخطيط الفوضى:

لا نقصد بهذا المكوّن تنظيما للفوضى، فهذا يتنافى شديداً مع خصائص قصيدة النثر، ويكون التخطيط أقرب إلى حقولها الدلالية أكثر من صرامة التنظيم. ونقصد بذلك أن الشاعر يمتلك تصوّرا خاصا للموجودات التي لا يعكسها في مرايا التخييل، وإنما يصنعها في مرايا التخييل كائنات أخرى تمتلك حضورها النوعي المشكَّل من مادة الانحراف والانزياح الفني.

تتناسل القصيدةُ (البكريةُ) في نزوعٍ فوضويٍّ، يهدم أولاً الإيقاع التقليدي، في انقلابٍ مشروعٍ على قبضة الخليل الفيزيائية الصوتية وعلى الأطر الإيقاعيّة الثابتة المستقرّة، لتغذّيَ ذاتها من موسيقاها الداخلية النابعة من تجربة الشاعر الفنية والوجودية معاً. وحيث تغيب سلطة الروي والقافية، تحضر قوّة البناء اللغوي بديلاً، وهو بناءٌ لا يستغيث حتى بمفاهيم التوازي مثلا أو التكرار أو ما شابه، وإن حضرا في المتن الشعري هنا… وإنما يستمد إيقاعه من القوّة البنائية المتوافقة مع مبدأ الانتظام في القصيدة على حدّ تعبير الناقدة (سوزان برنار). نلمس ذلك لا في مظاهر الاتساق التركيبي، فحسب وإنما في تلكم الوحدة العضوية البانية لكل أنساق القصيدة الظاهر منها والمضمر.

2 -  تشييد الهوية:

وهي هنا هويتان: الأولى وجودية ترتبط بذات الشاعر، وتتعلق برغبة فلسفية في إعادة بناء هذا الوجود. ضمنيا يستبين لنا أن الذات المتكلمة غير راضية على حضورها الراهن (ماذا لو) ويفضح ذلك هذا السؤالُ الماكر المشحون أولاً بمكر المساءلة (ماذا) وهي مساءلة لا تروم أجوبة، وثانياً بمكر العدم، خاصة إذا عزلنا، تجريباً إجرائياً – مكون (ماذا) عن سياق (لو). انطلاقا من افتراض هذا العدم الرابض في السؤال المعزول تأتي ملامح الهوية الثانية، وهي المتعلقة بفن القصيد، حيث تتناسل هوية النثيرة تدرجا من افتراض العدم إلى الرغبة في التفسخ، إلى التحليق، إلى التعالي، إلى السؤال مجدداً … وبين السؤال الأول والسؤال الأخير تتناسل الأسئلة تباعاً لتفتح أمام الذات إمكاناً واسعا جدّا لممارسة هذا التشييد. (ماذا لو – يحضنني سؤال الانتماء)… ومن العدم، التسطير الافتراضي، المبدأ، ينبجس السؤال الأخير المتعلق بالانتماء وهو السؤال المفتوح على أنساق مضمرة غنية وجديرة بالكشف (يحضنني سؤال الانتماء – أتمطط هنا خلف أبجديتي – كلما انبجست من جوفي) إذ لا معنى للسؤال خارج شرطين: شرط الوجود (جوفي) وشرط الكتابة (أبجديتي). وحيث أن القراءة هنا في مجال القصيد النثير يعدّ مغامرة، فإن الحسم في عمليات التأويل ينبغي أي يأخذ طابع قوة الاقتراح لا قوة الحق، لأن الانطلاق من التأويل كحق يشي بالرغبة الدفينة في بسط وصايته على التأويلات الأخرى الممكنة، من هنا فتأويلاتنا اقتراحات ليس إلا… أقول هذا لأن علامات مثل (الجوف) و (الأبجدية) في سياق مثل هذا لا يمكن أن تمرّ عابرة كريمة، وهي تحمل كل هذه الشحن الدلالية ، فالجوف موصوف هنا باتساقٍ مع فعل الانبجاس، باعتباره مصدرا لانبثاق الكتابة… وهي الكتابة ذاتُها التي تتحول إلى متاريس للاحتماء خشية اندثار هذه الهوية المشيّدة في عوالم قصيدة النثر التي لا تعرف استقراراً أبداً.

3 -  هندسة الصورة الشعرية:

تعتبر الصورة أساسا في نباء القصيدة وخاصة القصيدة النثرية التي تستغني عن كثير من أسس البناء الموروث مما يعطي انطباعا خاطئا بهشاشتها. من هنا يصبح للصورة الشعرية في نسغ النثيرة دور رئيس في حضورها الفنّي.

تختزن الصورة كثيرا من الدلالات التي يروم الشاعر فضحها، ويترك للقارئ شرف هذا الفضح، بحيث لا يبيح لنفسه كل القول، ويكتفي بالإشارة … ونحن سنقتنص الإشارة من العبارة المفتاح، حيث تتناسل بعد ذلك آليات الإنتاج. ففي قصيدة (ماذا لو) تبدأ رحلة الصوغ بداية غريبة وهي ترسم محسوسين (التفسخ والغيمات) حيث التفسخ فعل مرتبط في اعتقالات المعجم ب (الانفصال والتطاير والتساقط) مسنداً إلى مكون (الغيمات) غير القابلة لاحتضان خصائص هذا الفعل إلا في المتخيل الشعري. وحيث أن الإسناد النحوي لم يزد الصورة الشعرية إلا انغلاقا وانغماضا، تأتي القصيدة برديف عضوي في السطر الثاني (من دوائر الاحتواء – وصارت منطادا) لتبشر بأن هذا التفسخ ليس مجانيا يفيد رغبة الشاعر في بسط عضلات صوغه وتمكنه من خلق بؤر التصوير… وإنما لتشكيل الانسجام بين أطراف الصورة، وهي ليست صورة تقليدية تنتهي بانتهاء الصدر والعجز، وإنما تمتد إلى أكثر من سطر في اتجاه احترام وحدة القصيدة العضوية، من جهة، وثانيا لممارسة حقّها في إنتاج الدلالة الممكنة. من هنا، يهندس الشاعر ممكنات الصورة الشعرية، لتصبح تركيبا منحرفا منزاحا عن فن القول المباشر إلى فن القول المُلغِز والملغوم. وتصبح الصورة وظيفية ترسل ذاتها سديما رقيقا، يقولُ بتحوّل الغيمات إلى منطاد وتحويل المنطاد إلى صهوة، وتحويل الصهوة إلى تحليق معاند للريح، حيث إمكان السفر النوعي داخل الوعي واللاوعي لمباشرة لقراءة الآثمة لوجودٍ موسوم بالتحول والتغير والرفض لكل ما هو ثابت. وهو ما تفضحه أيضا تركيبات من قبيل (يحملني فوق ربوة النهدين – أجنحة البطش – محبرة الصمت…) كل هذا في إطار ما يمكن تسميته، مجازاً، بالتعبير التقليدي الذي لازال يمتدّ فينا جميلا وفاعلا، أو ما يمكن تسميته بفيض المعنى، القابع في تلاوين البناء النحوي، والحامل لممكنات الدلالات البعيدة.

 

أكتفي بهذا القدر الممكن في تحويل مجرى القصيدة من نوايا الشاعر عبد الرحمان بكري إلى نوايايَ المقترِحة لا الفارضة، في إطار التعريف بالشاعر فقط، ليس في إطار الممارسة النقدية العالمة. وحسبي من هذا أنني، لا محالة، مصيب في بعضي ومخطئ في كثير من بعضي.

...

المتن الشعري:

قصيدة للشاعر عبد الرحمان بكري بعنوان

ماذا لو

...

ماذا لو تفسخت غيماتي

من دوائر الاحتواء

وصارت منطادا

يحملني فوق ربوة النهدين

لتحاكي أسرار اصفرار الريح

ببللها المارق

يلفني ذاك يقيني الماكر

ترتعد فرائص اللات

في تعويذة كتبت بلا تحقيق

تقوت تحت أجنحة البطش

عندما يتراءى لها ضياء الشمس

وأنا عالق بين الأقفاص

تأتي إلى متعالية

تلك قوافل النوارس

في بحيرات اليأس

تهادن في مهب الريح على سبيل التنقيح

وجعها في محبرة الصمت

ويرتكن على هامش الحراك

مدادي الحارق

يحضنني سؤال الانتماء

أتمطط هنا خلف أبجديتي

كلما انبجست من جوفي

 





من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...