الثلاثاء، 23 مارس 2021

سُداسِيّة ترْتَطِمُ بِجدارِ الْوقت بعنوان ( نِضالُ الرّياحِين ) على وزن الطويل

 





سُداسِيّة ترْتَطِمُ بِجدارِ الْوقت

بعنوان ( نِضالُ الرّياحِين )

على وزن الطويل

...


عَجِبْتُ لِظِلّي ... لا تَراهُ الْمَجـــــــامِعُ           

خَفُوتٌ ، صَموتٌ تَبْتَغِيـــــــهِ الْمَوَاجِعُ

...

و لا لَوْنَ يَقْضِي حَــــــاجَةً لارْتِعاشِهِ       

سِوى رَعشَةٍ ، لا تَجْتَبِيـــــهَا الْمَدامِعُ

...

عُيــــــونٌ بَكتْ لا عَيْب َفِي عَبَرَاتِها        

وَ عَيْبٌ شَهِيـــــــدٌ ، تَشْتَكِيهِ الْمَراجِعُ

...

بَغَتْ جـــــــائِحاتٌ ، مُدْلَهِمٌّ جُنوحُهَا     

عَلى سَمْتِهِ ، خَلْقاً بَرَتْهُ الْوَقـــــــائِعُ

...

فَيا حَبّذَا رَوْحٌ رَيَاحِيـــــــنُ، تَشْتَهِي          

دَماً ، مِسْكُهُ عِطْرٌ عَبُوقٌ ، و ضَائِعُ

...

يُغَذِّي شِفاهاً ، لمْ تَزَلْ فِي عِنـــــاقِهَا       

تُنــادِي جهَاراً : كمْ جَفَتْنا الْمَضاجِعُ

...

نون حاء

الاثنين، 22 مارس 2021

الشجرة في سيمياء النون - بقلم : نور أبوشامة حنيف

 


الشجرة في سيمياء النّون


قراءة في قصيدة : وليدٌ بعدَ مَخاض

للشاعرة غادة شعراني رسلان

بقلم نور الدين حنيف

...

تمهيد:

قالتْ.. عفوا، لم تقلْ، بل رسمتْ ونقشتْ بمادة الشّعر لوحة فنية لا تَهذي، وإنما تُهدي.. تُهدي إلى عيون القرّاء متاهاتٍ صاخبةً في لغة الهمس، وتختارُ – حتّى لا تنثَني عن فعلَيْ التّكثيف والتشنيف – أصباغا ترفض أن تمتص وحدة اللون في بساطة التسجيل، وتروم استيعابها في اختلافها وتداخلها وتشعّبها، في إدهاش التخييل، حتى يستقيم العزف النسوي عل وتر القريض عزفاً رابِتاً، يتخيّر في القول لذيذَه وعميقَه . وقبل هذا وذاك، يتخيّر شديده في عمليات سريرية حريرية تُشرِّحُ الذاتَ النوعية الموصوفة تجلياً صوفيا في القصيدة النثيرة الموسومة ب (وليدٌ بعد مخاض) .

وأنت تقرأ لغادة شعراني الشاعرة السورية، إنما تقرأ لمبدعة اختارت رهان الكلمة في أزمنة تخشّب الكلام، وسطوة الرّداءة، واختلاط حابل الشعر بنابله . فامتطتْ صهوة التخييل المجنّح والبعيد والمحلّق في سماوات الإدهاش النوعي الذي ينضح ببصمتها المميّزة.. وهذا الكلام ليس تخريجا اعتباطيا جزافيا يروم عشق الكلام في الكلام، وإنما هو درسٌ مسؤول ومنهجي يقوم على استقراء مجموعة من العلامات في البنية التركيبية للقصيدة، داخل رؤية نقدية تمتلك أدواتها الفاحصة بمرجعية واضحة، في أفق تأويلي مشروط لا يُقوّل المتن الشعري ما لم يقلهُ .

 سيمياء النون:

في مقاربة المتون الإبداعية كيفما كان جنسها، ينطرح السؤال الآتي: من يستدعي من؟ هل المدخل النظري هو ما يستدعي طريقة مقاربة النص أم العكس؟

وفي سياق (وليد بعد مخاض) يبدو واضحا أن النص هو ما يفرض مدخله المنهجي في القراءة وفي المقاربة . وإن قراءة أولى لهذا المتن تفضح العقد الضمني المشروط بين طرفيْ اللعبة الإبداعية والتي يحوكُ غزْلَها ناقدٌ ومنقودٌ في ثنائية اللغة والميتالغة المشهودة داخل عمليات التأويل المسيّجة بالنظر العلمي لا بالنظر العاشق .

تنضح هذه القراءة وفي أول تماسٍّ، بطبيعة المدخل، إذ تكتشف الأذن، أنّ الإنشادَ يتلو عليها تراتيل هذا المحكي البديع، في صوغٍ قوليٍّ أسلمَ السيادةَ لصوت النون كنسق يحكم التركيب والدلالة . كيف تمّ ذلك؟

دعونا قبل إجراء عمليات التفكيك لأوصال المتن الشعري في قصيدة النثر (وليد بعد مخاض) للشاعرة غادة شعراني أن نعبر طريق النظر في الصواتة النونية .

يتميز حرف النون بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)1.

وأما المحدثون فقد متّعوا صوت النون بكثير من الوضوح السمعي، صنّفوه في إطار المخارج الأنفية التي تحدث فيها الأصوات عندما يمرّ النفس من الممر الأنفي في اللسان العربي . كل ذلك في مداخل بحثية أدخلت الصوت إلى مختبرات الدرس والقياس .

ونحن في هذا السياق لا يهمنا البحث في خصائص صوت النون في الصواتة العربية قديمها وحديثها بقدر ما يهمنا حضور صوت النون في القصيدة داخل إطار يرتبط أساساً بإنتاج الدلالة وتأويلاتها الممكنة .

يحضر صوت النون في قصيدة (وليد بعد مخاض) داخل مظهرين:

النون الصامتة: وتتكرر في النص 72 مرّة

نون التنوين: وتتكرر في النص 4 مرات

داخل نسق النون الصامتة استطعنا تتبع تراكمها فوجدنا ما يلي:

- النون في فعل الجمع: 31 مرة

- النون في اسم الجمع: 12 مرة

-  النون في سياق الحرف: مرتان

-  النون في حالة الإتباث: 26 مرة

-  النون في حالة النفي: 04 مرات

-  نون الخطاب: مرتان

نلاحظ هيمنة النون المتعلقة بفعل الجمع مثل (نتغادق – نتقن – نتسامر.. 31 ترددا) وهو تراكم لا ينبغي أن تمر عليه القراءة مرور الكرام، على اعتبار أن الصوت وخاصة في مجال الشعر هو موسيقى قبل أن يكون تلفظا . إن نسق النون الصوتي هنا غنيّ بالإحالات الدلالية انطلاقا من تراكمه البائن (77 ترددا لصوت النون في قصيدة نثيرة عدد أسطرها الشعرية ستّة وثلاثون وأغلب أسطرها ثلاث كلمات أو كلمتان أو كلمة واحدة) ودلالة ذلك واضحة ليس على مستوى تقييد المعنى وإنما على مستوى البحث في هذا التراكم الاعتباطي .

- نسق النون ومقولة (النحن):

يبدو أن هذا التراكم يروم قول الخفي والمسكوت عنه، في تحبير نسوي يرتقي بالشعر إلى مستوى المساءلة العميقة . وفي هذا السياق يختفي ضمير المتكلم لتختفي (الأنا) الفردية وتحلّ محلّها (أنا) جمعية ضاغطة وملحّة على الحضور، بحيث تختفي تماما الإشارة إلى ضمير المتكلم في القصيدة . وكأني بهذه الأنا الفردية تخشى أن تظلّ هيولى مسحوقةً بين اللاشعور وبين القوة المادية التي يكرّسُها الخارج المقابل لجوانية الذات المتكلمة في رؤيتها الغائرة.. فتلجأ إلى تجاوز هذا النفي الواقع عبر بوابة الإثبات الجمعي . هذه الأنا كانت واهمة بالملكية قبل اليوم وكانت واهمة بالسيادة داخل الوعي الفردي الموسوم في تأويلنا المنهجي بالقصور وبالسرابية، ومؤشر ذلك هو تغييب الشاعرة لحالة الكلام الفردية في القصيدة كلّها .

إن هيمنة المتكلم الجمعي، على مستوى الفعل (31 مرة) وعلى مستوى الاسم (12 مرة) هي في تقديرنا علامة سيميائية ترفض حالة التفرد سواء أكانت مكسبة أم مثلبة، وسواء أكانت إيجابا أم سلبا.. على اعتبار أن الذات ترى في التفرد نوعا من القصور على إدراك ماهية الوجود في وحدته وفي تناغمه .

من هنا رغبة الذات في التخلص من هذه المعادلة المحرجة القائمة على الوعي بحدود الأنا المفردة في تمثل الكينونة الحقيقية أو القريبة من الحق، في إشارة إلى أن الوعي الجمعي هو البديل الممتلك للتنسيب الوجودي المخترق لجدار المجهول عبر عملية التوحيد بين الأنا المُتشَيِّئَة والموجودة في الواقع وبين الأنا الفلسفية القائمة في ملحمة (النحن) الخالصة والمتعيّنة في سديمها المتعالي المميز بالثبات الجميل، وكذا، بالتحول الأجمل .

والثبات في هذا السياق يتعلق بهذين الأقنومين المشكلين لوحدة الوجود منذ بدء الخليقة، في غير مسافة، وفي غير تغاير وإن كان التباين هو ما يحدد مرجعية هذا الائتلاف، بحكم حدود الهوية . وهي حدودٌ إجرائية للتمييز بين الحدّين فقط، ولا تشكل بؤراً حاسمةً في تشكيل الماهيات .

إنّ الثبات في هذين الأقنومين أيضا، ليس شكلهما ولا جنسهما ولا اختلافهما، وإنما الثبات فيهما هو تجانسهما الجوهري في مقابل تشعبهما العرضي، في لعبة تبادل الماهيات حيث كان التشعب هو الأصل (آدم هو غير حواء) والوحدة هي الفرع (آدم هو حواء في سديم الوحدة الإنسانية) . لكن الشاعرة حددت من خلال رؤيتها الشعرية الماسكة بمارد الاختلاف داخل قنديل التخييل الباني لنسق فلسفي وآخر جمالي يتداخلان في حميمية بلاغية تصوغ لنا تشكيلاً قادما من مخيالها الواصف للوحدة داخل التعدد، والانسجام داخل التشعب، والتناغم داخل الاختلاف.. في امتطاءٍ جليل لصهوة النثيرة باعتبارها شكلا فنيا متمردا ومرنا وقابلا لاحتضان كل الدفقات المعنوية والنفسية والإيقاعية لترسيخ الرسالة الشعرية وبثِّها مشحونة بالكثافة الدلالية إلى ذلكم المتلقي الموسوم في ثقافتنا العربية بالنمطية والتشابه .

-  سيمياء الشجرة:

تبدأ الشاعرة مشروعها الفني القائل بالتوحيد والتوحد والانسجام، بفعل جمع يستدعي وقفة نقدية متأملة . قالتْ في المطلع:

نتغادقُ أثْمارَنا

و الأغْصانَ الْمعقودَة فينا

و نُتقن لُعبةَ الأسرار

تحضر الشجرةُ هنا لا كوجود فيزيائي يستمد وضعه من ماهيته النباتية، وإنما كوجود نفسي ومعادل موضوعي لحالة متلبّسة في وجدان المتكلّمة، لا ترسم من خلاله علاقة الإنسان بالطبيعة كمجال منفصل ومحايد ومتشيّئ، بقدر ما ترسمها علاقةً تاريخية متجذرة في الزمن القابل للتحقيب أولا، وفي الزمن النفسي غير القابل للتحييز ثانيا: الأول يمتح مصداقيته من الإشارة النفسية لقدر الالتصاق القديم والأزلي بين الذات والآخر.. والثاني يرقى بالمتعيّن المادي إلى أفق الهيولى حيث تخرج الأشياء من طبيعتها \ الكوسموس إلى حالات إشراقية تلمّ المتشظّي في الواقع وتنسج منه لعبة الانسجام الكوني عبر صيغة الجمع النازحة من الصياغة النحوية إلى الكينونة الانزياحية الناطقة بألف دلالة .

إن ملفوظات (نتغادق + الأثمار + الأغصان) كافية لفضح وجود الشجرة التاريخية القابعة في الوجدان الجمعي للكائن العربي المشبع بثقافة الشجرة والثمرة (التفاحة) وما يترتب عنها من تداعيات تتأرجح بين الحقيقة اللّدنية " العلم الربّاني " وبين القشرات الخرافية التي ألبستها الذاكرة العربية لهذا المحكي الديني . إن وجود الشجرة هنا لا يعني تقييد دلالته في إعادة إنتاج الذاكرة بقدر ما يعني البحث المشروط عن قراءة لهذا الحضور الماكر.. فالشاعرة:

- استحضرت الثمار بدل التفاحة

- واستحضرت الأغصان بدل الشجرة

- واستحضرت اللعبةَ بدل ورقة التوت

- واستحضرت الأسرار بدل العورة

 

كتتويج لهذا الاستخلاص الرؤيوي الدلالي المشبع بالرغبة في تظهير كلّ تجليات التخييل الثرٍّ والمسؤول شِعريا عن جمالية القول والصوغ معاً .

كما أن صيغة الجمع في (تغادق، من غادقَ على وزن فاعَلَ) تفيد عملية الإشراك والمشاركة في الفعل.. (اعلم أنك إذا قلت فاعلته، فقد كان من غيرك إليك مثل ما كان منك إليه حين قلت فاعَلَ)2

و بالتالي فالتواطؤ هنا أساسي الدلالة، وهو لا يقف عند حدّ اقتراف الفعل، الموصوف بالقطف، بل يتجاوزه إلى الغلو في اقتراف الفعل والإيغال في طقوس هذا القطف، ومؤشّر ذلك هو فعل (غدق) في جذره اللغوي الدّال على الكثرة والغمر.. قال تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)3 . و في لسان العرب (الغَدَق: المطر الكثير العامّ، وقد غَيْدَقَ المطرُ: كَثُر)4 . و تفيد اللفظةُ، في بينونة كبرى، أنّ الغمر والغزارة والكثرة هي معانٍ حاضرة بقوة في سياق المحكي الشعري في هذا المطلع، بدلالتين: الأولى تفضح حجم الفرحة بهذا القطف الجَمَمِ والاستطابةِ فيه، والثانية تشي بالرغبة في اقتسام تُهمة الفعل أو صرْفها عن أحد الطرفين كما أشارتْ إلى ذلك القشراتُ السميكة المؤوّلة لتاريخ القطف وأكل الثمرة.. والسياق هنا ينمّ عن تواطؤ جميل تبدو فيه الذاتُ حامية للآخر والآخر حاميا لها عبر تبادل الأدوار في هذه اللعبة التاريخية (منظورالذاكرة) والمتخيّلة (منظور الشاعرة)، وذلك داخل محطّتين: واحدة ترتبط بلعبة الأسرار (ونتقن لعبة الأسرار) والثانية ترتبط بلعبة الظل (والأغصانَ المعقودة فينا) وهنا بالذاتِ، وهنا فقط، وصل الانزياحُ البلاغي قمّتَهُ في التكثيف اللغوي والدلالي، ذاك أنّ الأغصان تفيد الثمار، وتفيدُ أيضاً وأساساً ما يَرِفُ عن الشجرة من ظلالٍ.. وحيث أن الظل جسد لجسد، فإن هذا المنطوق غير واردٍ في سياق الصوغ الشعري العالي، وتستبدله الشاعرة في رؤياها الخاصّة بكينونة الظل المتحركة لا الثابتة، بمعنى أن الظل جواني لا خارجٌ منعكسٌ، والمؤشّر الدال كعلامة سيميائية مشبعة بالتحليل هو قولها (الأغصان المعقودة فينا).. ووحدها هذه النون الجمعية الملتصقة بحرف الجر كافية لتغطيةِ هذا البعد الإنساني الموحّد (بكسر حرف الحاء وبفتحها) والسائر في اتجاه بناء النص بناءً متعاليا (transcendantal) تجرّه إلى قدره الزماني تلكم الاحتفالية المشهودة بين الذات والآخر في سياق هذا الفرح الوجودي الممكن دائما..

- حدود النص:

و لا نقصد بالحدود عملية التنظير للنص كخطاب شعري داخل المحددات اللسانية بقدر ما نروم تأويل حدود هذا الانزياح المتني الكبير المجسّد في ثنائية الذات والآخر، والمعبّر عنه بذكاء نوعي متأتٍّ من الكتابة النسائية العميقة . وحتى لا نشطّ بالقارئ بعيداً نقولُ: إن الشاعرة اختارتْ لبناء هذا النص الشعري هندسةً خاصّةً للمعنى، أشّرتْ عليها بسيمياء البدء، وبسيمياء الختام، ونشرتْ بينهما مقولَاتها الفاضحة للعبة التشعب ثمّ الانسجام . كيف ذلك؟

دعونا نعود إلى المطلع \ الانفتاح، حيث فعل القطف يُمارَسُ على الثمار، قالت الشاعرة:

نتغادق أثمارنا

و الأغصانَ المعقودة فينا

و نتقن لعبة الأسرار...

ثم دعونا نلاحظ الختام \ الانغلاق، حيثُ فعلُ القطفِ يُمارَسُ على الإنسان، قالت الشاعرة:

نتنامى

نُزْهر

نُثمر

و نُقْتَطف  .

هي إذن شجرة ماسكة بنسق النون، تحتفل بانبثاق الأقنومين (الذات والآخر) وتُشرِع لهما أبواب التوحد والانسجام ضاربة عرض الحائط كل أشكال الاختلاف.. وتحتفل بهما أيضا في وصول هذا الانبثاق إلى مرحلة النضج التّام حيث بإمكان الوجود أن يستفيد من هذين الأقنومين عبر عملية القطف.. وبين القطف الأول والقطف الثاني مسافة وجودٍ تجلّى بامتياز صوفي يتحرك في سيرورة بانية للانسجام عبر ذوبان الذوات في بعضها البعض حتى لا إمكان للتمييز بين هذا وذاك .

يتحدد القطف الأول سلوكا مشبعاً بالثقافة لأنه يحيل على مرجعية جماعية تختزنها الذاكرة وتتساءل عمّن أكل الثمرة . ويتحدد القطف الثاني كاجتهاد شعري يبنيه مخيال الشاعرة حتى لا تتكرر في الثقافة، وهو هنا لا يحيل على فعل الذاكرة بقدر ما يحيل على فعل تبنيه قناعةٌ فلسفية بالوجود، ترى في هذا التباين بين الكائنات وهذا التمايز مجرد وهم، وكل الحقيقة في التوحد وفي الانسجام وفي التناغم .

هكذا نستوعب دلالة القطف هنا في حدّيْنِ: القطف الأول فعلٌ يتمّ خارج الذات في حين أن القطف الثاني فعلٌ يتمّ داخل الذات .

و بين المطلع والختام، تختفي الشجرة تماماً، وتسلِمُ زمام الانزياحات إلى الوجود البيني كيْ يمارسَ تجربةَ العمار والعمران.. وهي تجربةٌ إنسانيةٌ تملؤها الشاعرة بعلامات سيميائية مختلفة، مادّتها أفعال الإثبات: (زرعنا – نتسامر – نتهادى – ننتشي – ننبعث - نتراشق – نولد – نتجاذب – نراود..) وحتّى أفعال النفي في هذا السياق لا يستقيم لها النفي، ولا تسير في اتجاه مناقضة مقولات الوحدة والانسجام.. أنظر مثلا قولها (فلن نغفو) فالنفي هنا مسند إلى فعل غير مرغوبٍ فيه، ذاك أن فعل اليقظة هو المطلوب في سياق تخشى فيه البصيرةُ غفلة الأقنوميْنِ أو غفوتهما:

ساهرة يا عين بصيرتنا

نتثرين النور

تهابين غفوتنا

فلن نغفو.

و مثل ذلك قولها:

والهواجس الفارهةُ

تُعلي عقيرتَها

تصدح بما لا نُدرك

و ندرك حين نَسْمَعُنا

 فالنفي هنا منسوب إلى الذات في علاقتها بالهواجس، وهو فعلٌ \ قرارٌ ما دامتِ الهواجس تمارس فعل الصراخ.. في حين أن الذات والآخر على استعدادٍ تامّ لإصاخة السمع لوحدة الذات فيهما على اعتبار أن سياق المقول يرحب بالهمس ولا يرحب بالصراخ، إذ الهمس أكثر توغلاً واقتحاما لمنظومة الوعي في الإنسان.. (ونُدركُ، حينَ نَسْمَعُنا) إشارة جليلة إلى أننا مدعوون هنا إلى إعادة النظر في كل أشكالِ الصخب التي بنتِ الإنسان العربي .

- خاتمة:

إن البحث في قصيدة الشاعرة غادة شعراني رسلان مغامرة تستدعي من القارئ مجموعة من الأدوات الفاحصة، لأن مقولها لا يقف عند حدود النص اللسانية، بل يتجاوزها إلى عمق في التحبير وغور في التعبير، يستقطب المُقارِب والناقد والقارئ ويجرهم إلى متاهة فنية غنية بالدسم الدلالي لكنها مُورّطة بحكم متحها من معين المعرفة الثرّ.. ومن ثمّة ندرك أن التناسل الدلالي هو بيت القصيد في هذا التداول لأن النص في منطوقه اللفظي لا يدغدغ في القارئ عاطفة الحكم القيمي المتسرّع، وإنما يدعوه في وعيٍ نقدي مشروط إلى الاستماع الجيّد لمقول الشاعرة التي قرأتْ علينا قصيدة بحجم الحكاية البشرية الضاربة في عمق الزمن الإنساني منذ القطف الأول حيث الشجرة لذّةٌ ونبات.. إلى القطف الثاني حيث الشجرة إنسانٌ ومتاهات .

--

المتن الشعري: قصيدة (وليدٌ بعدَ مخاض) للشاعرة غادة شعراني

نَتَغادقُ أثمارَنا

والأغصانَ المعقودةَ فينا

ونُتقنُ لعبةَ الأسرار

فلا تُنجِبُنا أصواتُنا لُحوناً

ولا ترسمُنا أمانينا كما انتَخَبنا

هي النذورُ الماجنةُ

زرعناها عهوداً

ترأبُ صدعَ الرُّوح

نَتَسامرُ.. فَنُسعِفُنا

نَتَهادى.. فَنُنقذُ بقايانا

ونَنتشي.. فَنَنبعِثُ نبضاً

ساهرةٌ يا عينَ بصيرتِنا

تنثرينَ النُّورَ

تهابينَ غفلَتنا

فَلَنْ نغفو..

هذه الكأسُ.. نَتراشَفُها..

تُنجِبُنا

نُولَدُ بطعمِ الشوكولاتة

ولونِ الحليبِ

نتجاذبُ قهرَنا على حوافِ الوقتِ

لاكتظاظِ رحمِهِ بنا

والهواجسُ الفارهةُ تُعلي عقيرَتَها

تصدحُ بما لا نُدرِك

ونُدركُ حينَ نَسمَعنا

نجمعُ شتاتَنا

آهاتِنا وأُنسَنا

ثم نغفو

نرودُ حلماً شاهقَ المعنى

تُجليْنا الرِّحلةُ نحوَ ذاتِنا

تُروِينا مشاقُ مسيرتنا

وبرغمَ جَلَبةِ الطِّين

وصخبِ الصُّراخِ

نَتنامَى

نُزهِرُ

نُثمرُ

ونُقتَطَف

--

الهوامش:

1 - محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40

2 - سيبويه، الكتاب، تحقيق عبدالسلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977، ج 4، ص 368

3 -  الآية 16 من سورة الجن

4 - ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، طبعة منقحة، باب الغين، ص 3218

 

 

 

 

الاثنين، 15 مارس 2021

سُداسيّةٌ على وزنِ البسيط ، بعنوان ( نُونُها قَلَمٌ )


 

سُداسيّةٌ على وزنِ البسيط

بعنوان ( نُونُها قَلَمٌ )

...

مَــا رَاقَني عِــلمٌ ، عُنْــــــــوانُهُ الْعَدَمُ

مَــا غَرَّنِي شَكٌّ ، مَا فَـــــاتَهُ سَقَــــــمُ

...

كُلُّ السُّؤَالِ مُباحٌ ، مَا حَكَى سَبَبــــــاً

إِلّا ظُنُـــــــوناً ، قَدْ زَلَّتْ بِهَـــــــا قَدَمُ

...

مَا أرْتَضِي وَرَماً فِي خَاطِرِي مَرَضاً

عَقْلٌ بِغَيْرِ عِقالٍ ، عَقْلُهُ قِيَــــــــــــــمُ

...

قَدْ أَشْتَهِي وَطَــراً منْ سَائِبٍ ، بَرَقَتْ

فِي كَفِّهِ لَمْعَاتٌ ، طَيْفُــــهَا ظُلَـــــــــمُ

...

سَبِّحْ أَيَا عَقْلِي تَسْبِيــــــــحَ مَنْ لَمَعَتْ

فِي رُوحِهِ أَنْـــــــــــوارٌ ، وَحْيُهَا كَلِمُ

...

كُلُّ الْعُقُولِ سِـــــرَاجٌ . خَيْرُهَا سُرُجٌ

مِشْكَاتُهَا قَبَسَاتٌ ، نُـــــــــــــونُهَا قَلَمُ

...

نون حاء

الأربعاء، 10 مارس 2021

زجلية بعنوان ( أنويت أنزور ) للشاعر إبراهيم احميجان

 

زجلية بعنوان ( أنويت أنزور )

للشاعر إبراهيم احميجان

...



انْويت انْزور زَرتْ

الشّمس احْمات

 نَاوي الرْواح

الجَّهدْ هذا

 

زرتْ الكبدة اللّي فْ القبر اْرشات

أو اتَّحْناتْ العظام اللّي فْ الذّات

حتى شماتْ ريحةْ الگمرة

اللّي ابقات ، ما خالفت عادة

 

فين قاصد يا بنادم

احْيوط بْلا خاوة

ما بين اهْنا ؤ الْهيه

شوق گادي

أحِّياني علْ الصّابي

إلا ملْ

واحّياني علْ الكبير

إلا أتّل

وحْداني بلا گامة

 

اسبق الفراق ريح الشّوم

أو طاب السبول

في فدّان الخاطر خاوي

سارت احكايْ أعمارةْ الوسم

منزلة بلا صابة

الضيف العراضة

كيف العادة ناوي يحضر

 

أتّحرجْ شيخ السربة من البرگي

لا يسولُ على أوتاد لوثاق

 مايو هذا والحدادة

 كيف العادة مزال ما بانُو

 

عضيت ظفري بْ سنِّيْ

ؤُ سرّحتْ ف الخاطر تَخْميمة

لقيت فيَّ جوج شَرْكَاتْ بَاسْلاَتْ 

الأولى اصْبر

 والثانية ما نحلف علْ الغدر

والثالثة عرتها من شبابي

 تبسيمة مَزَالة توقف القلم العَدَلْ

لاَيْ أزمم اعْليَّ اللّي ماهي

مكتوبة ليّ

ويحاسبني النهار اللّخر

عل الفرحة اللّي فيَّ

نكدة طايشة ، ضُرْ


الاثنين، 8 مارس 2021

شِعرِية المحو في ديوان ( اطْوِيتْ الْمَا – للزجالة فاطمة المعيزي ) بقلم الأستاذ سعيد فرحاوي

 


شِعرِية المحو في ديوان 
( اطْوِيتْ الْمَا – للزجالة فاطمة المعيزي )

بقلم الأستاذ سعيد فرحاوي

...

الذات المتعالية بصفتها روحا

تنتقد تعفنات البدن الوجودي

بلغة الزجل داخل ديوان

(طويت لما) لفاطمة المعيزي .

 

اذا ما تقربنا اكثر الى النص الاول من ديوان فاطمة المعيزي الذي اختازت له من الاسماء ( طويت لما) ، وهو عنوان الديوان وفي نفس الوقت عنوان القصيدة المفتاح ، سنجد انفسنا في حوارذاتي عميق بين معطين متباعدين وفي نفس الوقت متلازمين متداخلين . و هما متباعدان لأنها اختارت الماء شكلا تيماتيكيا منه ترى روحها في واقع بتشظي مثير. وهما متلازمان لان الروح في الكتابة عندها تشكل موضوعا محوريا في بدن يرى المحتويات بعين تلتقط ما تريد وترفض ما لا يسعف توقعات وطنها . تستهل خطابها قائلة :

كيف وصات قابلت الدنيا

لقيتو لجلاج

مالح ثقيل بالكية

خوى كسدت حيان

مابقا تايق في

خوفي فيه

ل يمشي في

كدية كانت قطرات معتقة هبال

كانت في ساخية بي

ختارت وكر من دموع البال

طاح ظلو

شعاع ظلام من خوفي علي

طويت يامايا

بمهل خريف

كيف حكم لمكتوب

مرة انغطيك ف كاس لقهر

فص يدوب

مرة مني

تمنى عل قحط محسوب

كلشي باغي يسكي

بدلو لعطش ماخم لعيني...

هي محتويات دلالية تقذف الماء بصيغ تجعل منه ماء لا يشبه الماء الطبيعي العادي ، اي ان ماء الشاعرة يتحقق في رؤيتها بصفات تثير الشك في كل ما تحتويه من قيم وتصورات ورؤى قابلة ان يعاد فيها النظر، لنخرج الدوامات التي اسستها في عالمها من الايحاء والرمز الى التجلي والتوضيح . هو ماء ، كما قالت ( لجلاج ) ، في نفس الوقت ( مالح ) ، وثقيل ، مما يجعل منه ماء غير مسعف لإضفاء الحياة في تكوينه ونشأته ، لانه ماء لا كالماء المعتاد. لكن العميق في خطابها هو ان هذا الماء ( اللجلاج )  و الثقيل والمالح يتميز بكونه ( ثقيل بالكية ) . هكذا تخرجنا الشاعرة من المادة الى النفس او الروح ، عبر الماء ، يُفرغ  ( الكسدة ) \ الجسد ، مما سيجعلنا نفهم انه يتجلى بصفات السلب ، بشكلٍ لا يلائم اختيارات الشاعرة . لأنه تجلى بصفات متعددة ، الى جانب ما اشرنا سابقا هو فاقد الثقة في الذات التي تراه من زاوية نظرها بكونه كما تقول : ( طاح ظلو... )

وهي احالة على السقوط والسلب ، وفي نفس الوقت اشارة إلى الانهيار وعدم القدرة على مسايرة واقعها الوجودي الذي فيه تتخلى الشاعرة عن مكون يلازمها بطابع لا تحتمله . وهي كلها اشارات ستجعلنا نعيد النظر في دلالة العنوان ( طويت لما ) . اذا ما عدنا الى المعجم اللغوي للوقوف عند دلالة كلمة طويت ، سنجد معناها في معجم المعاني ان كلمة طويت تحيل على ان الكلمة من طوى ، وجدته طويا اي جائعا ، طوي الفرس اي هزل ، في طي النسيان هو امر لم يعد معروفا ، الطي في العروض هو حذف الرابع من ( مستفعلن )  في معجم لسان العرب ان كلمة الطي تعني نقيض النشر ، اسم منسوب الى انطواء على الذات عدم الاهتمام بالعالم الخارجي في اشارات تفيد ان طي الماء ليس جمعه او ضمه بقدر ما تحيل على جعل هذا الماء ملغيا و مرفوضا ، فتتحول الروح في حياة الماء الى هيولى جائعة تبحث عن مخلص ومنقذ . 

وهي كلها اشارات مشفرة تجعلنا نبحث في متاهة الماء كوجود مادي شكل بدنا متعفنا ، كما تكلم عنه الفلاسفة حسب رؤيتنا السابقة . هي اشكالية سترجعنا الى البحث في موضوع الماء كما تصورته الفلسفة الاسلامية بصفتها الاقرب لرؤية الشاعرة التي اعادت النظر في المفهوم من زاوبة نظرها الخاصة . اذا ما عدنا الى ثنائية الروح والجسد في علاقتها بتيمة الماء كمحدد مركزي ، سنجد ان الجسد في الفكر الاسلامي له صلة بالطابع الاخلاقي ، هو شهواني غريزي ، معرض للوقوع في الخطأ والرذيلة ، مما يجعل منه جسدا اغوائيا غافلا عن القيم الثقافية بالمفهوم الروحي العميق . هنا سيصبح الجسد مصدر الاخطاء والمنزلقات ، لهذا يعتبر الميول لشهوة الجسد هو انحدار الى مرتبة الحيوان ، اساسه التعفن اما التعالي عن الغرائز سيؤهل بالارتقاء الى مرتبة الملائكة . فالماء في الرؤية الاسلامية اساس تشكل الحياة ، كما تمثل عمق تكون الروح والجسد ، سيظهر في النص القرآني كمحدد قوي في اصل الوجود . جاء في سورة هود ( وكان عرشه على الماء ) وفي الانبياء ( وجعلنا من الماء كل كائن حي)  لكن اقرب صورة الى ايحاءات الشاعرة فاطمة المعيزي هي ما جاء في سورة الانبياء ( يوم يطوي السماء كطي السجل للكتب) ، نفهم من هذا التشارك في الدلالات ان الآية تحيل على انهاء الوجود من خلال طي السماء والارض ، فتنبثق القيامة او النهاية الدنيوية ، لكن مع المعيزي تتحول الصورة كضرورة ملزمة في الرؤيا ، لتصبح علاقةً بالوجود من خلال الماء كمحدد بنائي متميز بصفته صورة اساسها النفي والالغاء والرفض . فتصبح دلالة الماء في النص القرآني سامية باعتبار انه هو اساس الوجود ، وان الطي يلزم الفناء والتحول الى الحياة الاخرى . مما يجعلنا نفهم انها ارتقت برفض لوجود شهواني سلبي ، في غياب تام لمحدد مهم ملزم هو الماء ، وهي إحالة على الجنس الذكوري منه تتحقق الحياة ، وبه تتمظهر كل تجليات الوجود باعتباره مكونا رئيسيا في عملية التلاقي والتمازج ، لكنها برفضها لقيمة الماء تخرج المرأة من صبغتها الدنيوية كبدن وكجسد متعفن لتعلو بروحها الى مرتبة الخلود والقدسية ، او بشكل جد واضح تعلو بروحها الى حدود القدسية والالوهية . 

إن الماء الذي طوته أو هاجرته هو ماء الرجل بصفته المكون الموضوعي الذي على أساسه يتم الخلق ، و برفضها للماء تكون قد طوت الرجل بمائه وبسيولته الذي اساسه الإنجاب و مصدر الأولاد والحياة ، وهي صرخة واضحة اهلت الشاعرة إلى ان ترتقي إلى ماء آخر في عالم الأرواح أو تبحث عن حياة أخرى في عالم السمو والتعالي .  يصبح الماء الدنيوي أو الماء الإنساني ماء فاسدا متعفنا غير مقبول . فترفض الاستمرار والبقاء ،  وبعدها الحياة ، لسبب بسيط هو ان الماء القابع قربها هو ماء لا يزيل عطشه فكيف يتقوى على إزالة عطشها ،  فيصبح الرفض هنا متجليا بأبعاد صوفية عمقها صوفي بامتياز ، وهي إشارة قوية اسعفتها في اختيار نص الحلاج كمقدمة لديوانها باعتبار ان كل الشفرات الحاضرة في ديوان المعيزي لا تمثل مرورا بسيطا سطحيا فارغا بدون محتوى ايحائي . تحمل الشاعرة معها بعمق شعري رموزا إضافية في الوجود الصوفي مع الحلاج ومن خلال طيها لصفة الماء في علاقتها بالجنس الذكوري ، تكون قد غيرت مجاري حياتها ، لتنتقل من وجود دنيوي متعفن قيمته البدن والجسد الكاسد لتعلو إلى عالم الأرواح ،  كما فعل الله عندما طوى الأرض والسماء ليوقف نبضات الوجود و فتح باب الروحانيات . 

كلها إشارات شكلت مرجعيات قوية لحوارية عميقة في رؤيا جد تأملية لقيمة الوجود من زوايا مختلفة . فإذا كان طاليس يرى أن الماء هو أصل الوجود ، والنص القرآني جعل من الماء كل كائن حي ، فالمعيزي أوقفت الوجدان والروح وأخرجت ذاتها اللصيقة بروح طاهرة لتسمو بنفسها إلى دنيا الصفاء والنقاء ، تاركة الرجل ببدنه المتعفن يحترق في مهازل وجود هش خشن مريض لا يصلح لحياة سامية . وهي خاصية تجعلنا نفهم خصائص المرأة القوية التي تنجلي بروح عالية ، تحدد مجاري الحياة بفلسفة روحية جد ناضجة ( ترونسندونتالية ) تناقش الانطلوجيا البشرية بتصور ابستيمي واكسيولوجي فلسفي جد متميز. في وجودها تتمظهر تجليات الحياة في نظرة عميقة لكل المحيطات بتدفق يؤهلها ان تجعل من الشعر مرجعا لا يحتفظ بخاصية الخيال وحده ، فتجعل من التأمل والتجرد والخروج من التجسيد إلى الجوهر معطى فكريا ساميا بلغة الزجل . وهي خاصية قليلة جدا عند مجموعة من الزجالين المغاربة الذين لم يتحرروا بعد من كتاباتهم السطحية .

هذه معطيات ، شكلت تميزات خاصة وواضحة في كينونتها كذات غير عادية وكشاعرة زاهدة بالمعنى الفلسفي السامي ، فتخلص إلى ان المتمم والفاعل قربها يظل موجودا في العالم العلوي و المتحرر والملائكي الذي سماه افلاطون بعالم المثل او النص القرآني بالعالم الروحي .

و في شعرية المحو في ديوان (طويت لَما) تقول الشاعرة فاطمة المعيزي :

كنت ما

كنت انا سبولة

للي عمرت كأس لقهر

امل فاض

زممت لعطي متخومة

غسلت لما من لوني فيه

وسخني وانا شاد حق الله

وحلفت ديك لعين لبقات فيه

اردمها في عيني لبغ الله

باع الما حق لتزاد به ؛

صفا ؤكلشي يشرب من يديه

اتخوض للي ف لخوابي وكالو ليه

زلكك لغيس اللي ما حنيتي فيه...

ما يهمني في هذا الديوان هو اشكال تجلي الماء كموضوع ، منه تحدد الشاعرة موقفها من حياة تلازمها برؤية واضحة ، تحدد منطلقاتها واسسها كذات رافضة ومنتقدة ، وفيه تخرج معان عدة لترشقها رعدا بمواصفات جد دقيقة . تخاطب الآخر بصفات محددة (كنت ما )  والماء كما قلنا سابقا اساس الأمان وضامن الحياة ، في حين تعود الى ذاتها لتجعل منها طرفا ملازما للماء بقوة متفانية :

كنت ما ... هو

كنت انا سبولة ... لانا.

الصلة بين السبولة والماء صورة متلازمة ،لا يمكن الحياة في غياب هذا الترابط والتقارب بينهما ، الماء الذي طرحته موقعيا يسبق الثاني/ اسبولة ، مما يعني القيمة الوجودية لهذه الحياة في رؤية ذاك الجنس الذي تحدتت عنه بسمات جد واضحة ... تقول :

كنت انا سبولة

اللي عمرت كاس لقهر...

فتخرج بنا الى عالم متاهتها ، محددة شكل تصورها لوجود مضطرب (عمرت كاس لقهر) لأنه يعكس نفسية بأبعاد نفسية واضحة ، ربما تدخلنا في دوامة النزعة الفلسفية الوجودية كما تكلم عنها الوجوديون الكبار، سارتر مثلا الذي جعل من الآخر عمقا في جحيم حارق (الجحيم هم الاخرون) .  فالماء إحالة على ذكر مستفز، مربك و  غير صالح أن يكون شرطا من شروط حياة تتصورها الشاعرة بكونها منطلق تعبها او عمق جحيمها كما رآه سارتر وغيره؛ فهي سنبلة متعطشة الى ماء صالح يسقي عطشها ، يوقف نبض ألمها ،  و يخرجنا من أوجاعها لتدب في استقرار مشرف ، يؤهل الى ضمان استقرار آمن ، لكنها ستخرج بصيحتها معرية عن هذا الزيف الماكر الذي لم يجعلها في وضع تسعاه وتحلم به . فهي سنبلة ملأ العطش تعبها قهرا تعدى الحدود ، لأنه كأس من القهر الذي فاض طيشه ، وتسرب عطبه ، وكثرت الانكسارات ، لذلك ستجعل من مائها مادة متصفة بوسخ خاص ، كانت تظن انه الوسيلة المؤهلة لغسل وسخه ، فيصبح هو المادة الأوسخ والارذل ، مما جعلها تقول :

غسلت لما من لوني فيه

وسخني وانا شاد حق الله

 

وهي اشارات قوية تعري عنها الشاعرة التي وجدت في وسخ الماء وسخا تعدى وسخها ، مما يفيد انها عندما اعتمدت عليه كوسيلة لازالة أتعابها وألمها وجدت فيه  الماء (الرجل) محتوى مدنسا رديئا لا يفيد في مجال الإعانة وتحقيق مطامح تحلم بها المرأة المنخورة ، عندما تحتمي برجل غير مؤهل لمسايرة ومعاشرة وقعها ، لم تجد فيه من الشروط ، ما ستجعل منه الرجل القوي المشاكس .

ان الشاعرة فاطمة المعيزي ،  في ديوانها ( طويت لما ) تعيد النظر في الحياة من زاوية جد مبأرة ، تحاول الاعتلاء بفلسفة رؤيتها لترتقى الى الرؤية الفلسفية الوجودية ، خاصة مع رائدها سارتر الذي جعل من الآخر أساس التعفن وعمق المشاكل ، او بصيغة ادق :  ( الجحيم هو الآ خر) .

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...