الجمعة، 16 فبراير 2018

قِرَاءَة في نسقِ " لهْوَايْشْ " للشّاعِر الزجال محمد علوش





        قِرَاءَة في نسقِ " لهْوَايْشْ " للشّاعِر الزّجّال محمد علوش 

...


عرَفتُ الْفاضِلَ " محمّد علوش " في سياقٍ واقِعي ، في محفَلٍ ثقافيّ بالقنيْطِرَة عام 2015 ، ثمّ توطّدتِ الْعلاقَة صامِتَةً في العالَمِ الْأزرق عبْرَ تفاعُلاتٍ لا تتوقّفُ بيني وبيْنَهُ ... هُوَ الآنَ منْ بيْنِ الْوُجوهِ الّتي أتمنّى أن ألْقاهَا مباشَرَة لأساجِلَها في شؤونِ الْفنّ وَ الْإنسان .

يكتُبُ الْفاضِلُ محمد شعراً كما لوْ أنّهُ يصْنَعُ أجْنِحَةً لِطائِرٍ مَهيضِ الْأجْنِحَة في زمَنٍ تَطيرُ الْبغْثَانُ عاجِزَة في أدنى السّماء ، وَ تحاوِلُ قَاصِرَةً أن تلْحقَ بالنّسورِ في قلْبِ السّديم . يُبْدِعُ الْفاضِلُ محمّد شعْرَه خارِج منطِقِ الْمُساوَمة على الضّوءِ الْباهِت ، لأنّ ما يخْرُج من صَدْره هُوَ لَعمْرِي الألَقُ الّذي لا يحتاجُ إلى ضوءٍ كيْ يشِعّ ...

سأقرأ لهُ بمَعِيّتكمُ زجَلِيّةً اختَارَتْني وألحّتْ عليّ بالتفاعُل ، فاسْتجَبْتُ وأنا واعٍ كلّ الْوعيِ أنّ الْعوْمَ في بوحِ صديقِنا مغامَرَة ، لأنه يتدثّرُ بالْبَسَاطَة الْمقَنّعَة بالْعُمقِ الْفكريّ الْماتِحِ ألْوانَهُ منْ رؤيَة خاصّة للذّات وللآخر وللْماحَوْل . وعنوانُ هذه الطّريفَة هو " هْوَايشْ الذّاتْ " .

العنوانُ عَتَبَة حامِلَة لاحتِمالاتٍ عامِرَة بالتّوتّر ، بينَ الْحلُمِ وَ الْواقِع ، عبْرَ مركّب اسْمِي إسْناديّ مفْعَم بالتحَوّلات ، يمْزِجُ بيْنَ مفْرَدة بنَتْها الثّقافَة الشّعْبِيّة بدلالاتٍ تُلْغِي الْعقْلَ وَ الْاِسْتِواء ، وَ تُتْبِثُ حالاتِ الْخَلَلِ وَ اللّااِسْتِواء ... وَ الْجمِيلُ في هذا الْإسْناد الْاسْمي أنّ " هْوايْشْ " تسْتنِدُ لِمرْجِعِيّة عربيّة صِرْفَة ، ذاكَ أنّ " الْهَوَشَ " هُوَ التّحَرّكُ وَ الْهَيْجُ ، وَ بالتّالِي فالذّاتُ في هذا الْمقامِ موْصُوفَة بالْحرَكة الْهائِجَة بِلا ضابِط تُؤطّرُها حالاتُ جَذْبَة نوْعِيّة تَرْتَفِعُ علَى الْعقْلِ وَ الْمنْطِقِ ، وَ تَرْسُمُ لِظاهِرِها وَ باطِنِها رَقْصاً هَيُولانِيّاً يرْفُضُ كلّ الْإيقاعَاتِ إلّا إيقَاعَ " لْحالْ " بالْمفْهومِ الشّعْبِيّ .

ما الّذِي جعَلَ الذّاتَ تتحَرّكُ على هذا النّمَط غيْرِ الْعادِي ، وَ الْموسُومِ بالْاِنْتِقالِ منْ حالاتِ الْوعْيِ إلى حالَاتِ اللّاوعْي ؟ ...

يُعْلِنُ الشّاعِر بدْءاً عن طبِيعَة الْعلاقَة بينَ الْحلُمِ وَ الْواقِع عبْرَ جِسْرْ الْخَيْبَة والصّدْمَة { شْحالْ منْ حلْمَة فِيّا تْقتْلاتْ } ... هذه الْعِبارَة وَحَدَةٌ لسْنِيّة غيْرُ بَرِيئَة بالمفْهوم الْفنّي لا الْأخْلاقِي ، لأنها جرّتْ خلْفَها تَراكُماً منَ الْأسْئِلَة الْواخِزَة وَ الْعامِرَة بالْمرارَة { شْحال من بكيه فِيّا صرّفتها ضحكات - شحال من غوثه فيّ خرجتها بارود السكات } و مِن ثَمّةَ فالْمَقُولُ الزّجليّ الْمنْطوقُ في هذا السّياق هُوَ الْاسْتِنكارُ لا الْاسْتِفهامُ في سَطْحِيّتِه ، وَ هُوَ أبْعَدُ منْ ذاكَ لأنّهُ يَرْسُمُ معالِمَ الذّاتِ الْمقْهورَة داخِلَ متاهَة تجْمَعُ بيْنَ شِقّيْنِ متناقِضَيْن  الحلم المسفوكُ و البكاء الضّاحِك  وَ  الصراخ الصّامت  ...  إنّها الْمُفارَقَة الْغرِيبَة الّتي يبْنِها تمَثّلٌ شاعِريّ لتناقُضاتِ الْماحوْل .

كيْفَ تتجلّى الذّاتُ في خِضمّ هذا الْماحول الّذي لا ينِي يباغِتُها بالْقسوة ؟ فِي انْطباعٍ تلقائي سيذْهَبُ الْقارئ إلى اعْتِناقِ بُكائِيّةٍ سلْبِيّة وَ هُوَ يخْتَزِلُ الْمُعاناةِ في التّوْصِيفِ الْمُشَخّصِ وَ الْمُنْزَلِقِ في ثَقافَة النّحيبِ الْخاوِي ... يُكَسّرُ الشّاعِرُ هذا النّحْوَ الْتقْلِيديّ لِيؤسّسَ بوْحَهُ على أرْضِيّة رؤيَةٍ فنّيّة تمْتَحُ مرْجِعِتَها منْ وَعْيٍ جَمالِيّة بحِبّ وَ لا تَكرَه ، تبْنِي وَ لا تهْدم ، تُبَشّرُ وَ لا تُنفّر ، تَحْتَضِنُ وَ لا تُقْصِي ... تَصْنَعُ الذّاتُ عالَماً منَ الْقِيم الجريئَة ، نُلَخِّصُها في قُدرَتِه على تَحْويلِ النّقِيضِ إلى فكرَة ، وَ اسْتِبْدالِ السّلْبِ بِالْإيجابِ في فلسَفة لا في شِعار ... هكذا يُحوّلُ الشّاعِرُ مفهومَ " لهْوَايشْ " منْ حالةِ الشّطْحِ الْمُسْتكِينِ إلى رَقْصٍ على حِبالِ الْفعْلِ الْواعِدِ بالضّوء ، فَتخْرُج الْكلِماتُ نَسْماتٍ تنْضَحُ بالْعِشْقِ لِلْإنْسانِ وَ تُمَجّدُ الْمَحبّة { فْ هوايش الذات ، خْتار العقل  تكونو نْتومَا ، و ما نكونش أنا  ، حيت إيلا عشتو نْتومَا ، عشت أنا } قمّةُ الانْدِماجِ الْكونِيّ الْيَعْبُرُ الذّوات بِمجاذِيفَ منْ سَدِيمٍ حانٍ وَ رَقِيقٍ نحْتاجُهُ في زَمَنٍ يَعُجّ بِ" الْأنا " الضّاغِظَة ...

تتحوّلُ " لهْوايشْ " منْ مُجرّد حالَة فرْدِيّة يشْطَحُ فِيها الْجسَدُ علَى إيقاعِ الْبَخورِ إلى حالَة جمْعِيّة يُؤسّسُ لَها الشّاعِرُ مشْروعَ رَقْصَةٍ كوْنِيّة تُعانِقُ الْقِيمَة النّبيلَة الْمُحِبّة الْخيْرَ للْجمِيع ، وَ تَمّحِي فِيها الذّاتُ الْمُفْرَدةُ لتَنْكَتِبَ الذّاتُ الْجماعَة ...
...
...
أنظر النّص :
" هوايش الذات "
شحال من حلمه
فيّ تقتلات
شحال من بكيه
فيّ صرفتها ضحكات
شحال من غوثه
فيّ خرجتها
بارود السكات
تطحن القلب
من حر الطلقات
تشتت الحروف
الخارجه مني نسمات
ما بين نْتومَا و أنا
ف هوايش الذات
ختار العقل
تكونو نْتومَا
و ما نكونش أنا
حيت إيلا عشتو نْتومَا
عشت أنا 
... 
بقلم : نورالدين حنيف





قراءة في نسَقِ الْقسْوَة مع الشّاعِر " عبدالله التّْوِيسْ "



















قراءة في نسَقِ الْقسْوَة مع الشّاعِر " عبدالله التّْوِيسْ "


...
          
 سؤال الذّات ، سؤال الْهُو ، سؤال الكيْنونة ... هو ذاكَ الشعْرُ في صرخة ساكِتة ، عبر قصيدِ الزجل ، المتوسّلِ لُغَة البوحِ السّائر بينَ النّاس أُلْفَة ، والْمتعالِي على النّاسِ فنّا ... والتّعالِي هُنا ليْسَ مقاميا يكرّسُ طبقيّةَ القراءَة ، إنّه تعالٍ سديمي ، يخْتَرِمُ نظرَة الدّهماءِ لشعْرِ الزّجَلِ عَلى أنّهُ شعرٌ دارِجٌ وَ بسيطٌ وَ مُتَنَاوَلٌ ... لِيسْمُوَ بِفنّ التّعْبيرِ إلى سماواتِ الْإبداعِ ، في رؤيةٍ فنيّةٍ ، ترقى بالذائِقَة ، وتصعدُ بها إلى آفاقَ ، غيرِ محسُوبةِ الطّيران ، في تحْليقٍ هادِفٍ لا يرْضى إلّا بالْعلياءِ فضاءً وَعْراً لِعومِ النّسورِ ، تارِكاً زحْمَة الْفضاءاتِ الْمُمكِنَة لِبُغاتِ الطّيُور .

تطرَح الْقصيدَة سؤالاً حارِقا " شْكونْ تْكونْ " يُزعْزِعُ ارْتِخاءَ الْإنسانِ لوجودِهِ الْفيزيائِيّ ، كما يُزعزعُ ثقَتَهُ بِذاتِه الصّغيرة ، الْواهِمَة ، والْكبيرَة بمرايا مُحَدّبَة ، تظْهِرُ لَهُ صورَة الْقطّ سبُعا هزَبِرا ، فيما هو حبّةُ خردلٍ ضئِيلَة في فسْحة الوجود الْرحْبَة والواسِعَة " و نْتا غِيرْ سْمِيّة مرْفودَة منْ كْنانشْ لْموتْ "

الصورَة هنا ، في غايَةِ السّخرية السّوداء ، تبني ذاتَها من فنّ التّوتّر والمسَافَة ، عبر تضادّ غير مرئِي ... فنحنُ عادةً ما نتمثّلُ كنانيش الحالة المدنية كنانيش حياة ، لا كنانيشَ موت ، كما ذهبَتْ إلى ذلكَ القصيدةُ مذهبا قويّا مقصوداً ... يزِيدُ من عَبَثِها تصْويرُ الشّاعِرِ للَحظَة الْبدْءِ ، والْموسومِ أيضاً بالسّخرِية المتكلّمَة والطّافِحَة بالْأسئِلَة ، وَ هي لَحْظَةُ انْتِشاءٍ مائِيّة يشهَدُ على حمْقِها لَيْلٌ أحمقُ ، وَ على دونِيتِها ، ليْلٌ أدْنى ، وَ على عُرْيِها ، حبّ عارٍ من كلّ شيء ... هكذا خرجْنا من قصيدة الشاعِرِ ومن رؤْياهُ ... فَما نحْنُ إلّا أسماء عارِية وافِدة من دفاتِرِ الشّهوة إلى كنانِيشِ الْموت ... " تْلَقْمَتْ مّيْهَة منْ هْبالْ اللّيلْ " .

فَكيفَ يبنِي الشاعِرُ " عبدالله التويس " أنْساقَهُ الْقولِية في هذا الْبوحٍ الْجميل ؟

إنّهُ يَبْنِيها عَبْرَ مجْموعَة منَ الْآلِيات ، نذْكُرُ منْها على سَبيلِ الْاِسْتِئناسِ :

1 - آليةُ السّؤال : عادَةً ما يَنْطَوِي السّؤالُ على انْتِظارِ الْإجابَة وَ توَقّعِ الرّدّ ، في نسَقِ التّواصُلِ الْآليّ بينَ متَخاطِبيْنِ ... لكِنّهُ في هذِه الْقَصِيدَة سُؤالٌ اِنْزِيّاحيٌّ كاشِفٌ وَ مُعَرٍّ لِأوْراقِ التُّوتِ الْعالِقَة بِحَقِيقَة هذا الْمدعُو إنْساناً { شنّو تْكونْ ؟ } ... تأْتِي النّتيجَةُ تِباعاً كَإضاءَة نوْعِيّة لِمُسْتَغْلَقِ الْخِطابِ الزّجَليّ عنْدَ شاعِرٍ تَمَرّسَ على فِعْلِ الْقَولِ ، لا منْ بابِ التّكْرارِ الْأجوفِ ، وَ إنّما منْ بَوّابَةِ الْإبْداعِ الْمُتجدّدِ دوْماً والْمُعانِقِ لِعُنْصُرِ الدّهْشَة كَرِهانٍ فنّي رُؤْيَوِيّ يَمْتَحُ نَسْغَهُ منْ مِصْداقِيّةِ القَفْزِ عَلى الْبَداهَة الْمَقِيتَة ...
تأتِي النّتيجَةُ إضاءَةً نوْعِيّة لِعالَمِ الشّاعِرِ الْموْسُومِ بِالرّغْبَة في الْمعْرِفَة ... ولا أقولُ الْمَعْرِفَة الْعالِمَة ، و إنّما الْمعْرِفَة الْحالِمَة بالْقَبْضِ عَلى شيْءٍ منْ طَبِيعَة هذا الْكائنِ الْمجْهُول { وْ نْتا غِيرْ سْمِيّة } ... وهذا ليْسَ جواباً منْطِقيّاً لِسؤالٍ غيْرِ منْطقيّ ، إنّهُ في عُمْقِ النّظَرِ تشْرِيحٌ لِمُغالَطَة وُجودِيّة قدْ تبْنِيها أحْكامٌ صِبْيانِيّةٌ تُؤلّهُ هذا الْمدْعُو إنْساناً وَ ترْقَى بِهِ فوقَ مقامِهِ الْصّلْصال ، وَ هُوَ الْتّرابُ الْقَادِمُ منْ كَنانِيشِ الْموتِ ...
وَ فوْقَ هذا ، هُوَ سُؤالٌ  مُؤطّرٌ لِسَيْرورَة القولِ بينَ دَفّتيْنِ : الْأولى مفْتُوحَة على الْآخر { شنّو تْكونْ ؟ } ... وَ الثّانِيّة مفْتُوحَة على الْأنا { شنّو نْكونْ أنايَا ؟ } ... وَ بيْنَ الْقُطْبيْنِ تتداخَلُ الْأنواتُ في ذاتٍ واحِدَة معَ اخْتِلافٍ في التّجلّي ، ذلكَ أنّ الشّاعِر اخْتارَ للنّشْأة حاضِناً وَرقِيّاً { كنانيش } فيما اخْتارَ لحالَة الْاسْتِواء حاضِناً نوْعِيّاً هوَ { الْأرض } وَ في ذلكَ حمُولاتٌ دلالِيّةٌ عامِرَة بالْاِحْتِمالاتِ وَ غَنِيّةٌ بِالتّأوِيلات ، وَ حسْبُنا منْها قَوْلُنا إنّ الشّاعِرَ يرُومُ تحْقِيقَ نوْعٍ منَ الْاِنْسِجامِ الّذي ظاهِرُهُ تشَعُّبٌ واخْتِلاف وَ باطِنُهُ تنَاغُم ... والْانْسِجامُ نؤوّلُهُ بِرَغْبَةٍ قويّةٍ فِي جعْلِ الْأرْضِ مُجَرّدَ كُنّاشٍ علَيْهِ سَطْرٌ باهِتٌ هُوَ الْإنْسانُ ... منْ هُنا قَسْوَةُ الاِسْتِعارَة .

2- الْاِسْتِعاراتُ الْقاسِيّةُ : وَنَقْصِدُ بِها كلّ تعْبِيرٍ فنّيّ يتَوسّلُ الْبِناء الْاسْتِعاريّ الطّافِحِ بالْحُمولَةِ الْمُفارِقَة ، بحْثاً عنْ شَكْلٍ مُفْرَدٍ و متفَرّد لمَا يُسَمّى بالصّورَة الشّعرِيّة ... فَيذْهبُ " أبوفيروز عبدالله التّْوِيس " مذْهَبَ صِناعَة الْدّهْشَة السّاخِرَة عبْرَ اخْتِرامِ الْمألُوفِ الْعابِرِ ذائِقَتَنَا بِمَجاذِيفَ منْ بُخار ... أولى هذه الاِسْتعارات قولُهُ { كنانيش الموتْ } ... تبْدو السّخْرِيّةُ السّوداء واضِحَة في اللّعبِ على الانْطِباعِ وعلى التّمَثّل الشّعْبِي لطُقوسِ تسْجِيلِ الْمولودِ في دفاتِرِ الْحالَة الْمَدنيّة الْمفْعَمَة بالْفرْحَة وَ الْحبُور ... فِيما تُؤرّخُ الْقَصِيدَة اسْمَ هذا الْمولودِ في دفاتِرِ الْموتِ ، وتخْتَزِلُ فِي قَسْوةٍ بائِنَة كلّ ذلِكَ الْعُمُر الْعامِرِ بالْحَرَكَة والصّراخ الْبَلِيدَيْنِ ... لِيُعْلِنَ الشّاعِرُ وفِي منْطَقَة مجْهُولَة تُقِيمُ بيْنَ الْوعْيِ وَ اللّاوعْيِ ، أنّ الْموتَ قاعِدَة وَ الْحياةَ اسْتِثْناء .
ثانِي هذه التّجليّات الْقاسِيّة قولُهُ { زْرورة من دْموع لْ عْياط } ، الهدِيّة الطّقْسِيّة المقدّمَة لِأهْلِ الْمولود عادَة ما تُسْتقْبَلُ بالْفَرح ، و قدْ تكونُ نَقْداً ، وَ قدْ تكونُ عَيْناً ... لكِنّها في هذا السّياق هِيَ دُموعٌ و بُكاء . هذا المكوّنُ السّائِلُ ينْسَجِمُ أشَدّ الاِنْسِجام مع توجّه الْقَصيدَة الْبانِية نسَقَها على متُونِ القسْوة السّاخِرَة ، وَ على السّخْرِية الْقَاسِيّة ... إمْعاناً في جلْدِ هذا الْكائن الْغرّ الْمؤمِن ببلادة نوعيّة بالدّنْيا ومُغْرَياتِها . يُزَكّي هذا التّخْرِيجَ حُضُورُ الْغَيْمَة بِقَلْبِها الْمُرْهف { ولغيمة ڭلبها رْطب تزكي دْموعْها } .
ثالِثُ هذه الْقسْوَة الْمقْصُودَة قولُهُ { ولْ أرض مزال مْركباني وظهر ل يّامْ حْدورة } ... تَصَوّروا معِي قدْرةَ الْبوحِ على اسْتِنْطاقِ الصّورَة لا في حسّيّتِها الْمألُوفَة عبْرَ أدواتِ تشْخِيص الْمُجرّد وَ تجْرِيد الْمُشَخّص  ، وَ إنّما في قُدرتِها على اللّعِبِ بحُمولَةِ التّشْيِيئ { la chosification } عبْرَ تحْوِيلِ الْماهِيات فِي انْسِيابِيّة قاسِيّة لا تَني تقْهَرُ السّمْعَ وَ تجْلِده ... الْأرضُ أمّ تحْمِلُ الْمولودَ على ظهْرِها ، وَ الْأيّامُ طرِيقٌ منْحَدِرَة مجهُولَة النّهايَات .

هذا فيْضٌ من غَيْضٍ في عرْسِ الْكلِمات مع شاعِرٍ يَقِيسُ حرْفَهُ قِياسَ منْ يَكْتُبُ للتّارِيخِ قبْلَ أنْ يكْتُبَ لِذاتِه ... أحيّيكَ أخي عبدالله وَ اعْذُرْنِي إن انْفلَتَ يراعِي في غَيْرِ الْاِتّجاهِ الْمُعاكِس ... فأنا إنْ لمْ أشاكِسْ لا أكْتُب ...
...
بِقلم : نورالدّين حنيف
...
أنظر النّصّ :

شنو تْكون
ونْت غير سْمية
مرفودة من كنانش لموت
تْلقْمت مّيْها من هْبالْ الليل
كان حبها حارْ
وكانت حْياة هْديةْ
ولدت لحب عريان
وبْقات السّتْرة وزت
يتناتفو عليه لخوت
بْكات لموت
على قْتيلتْ لحب
وتْعشا تْراب بالدم
حتى فڭسْ رْحام الدم
زْرورة من دْموع ل عْياط
وركبت لفرحة ع لبْكا
ؤ كلشي سْكت ع لقتيلة
مزال الشمش تْسخن ل بْحر
يتْبخَّر الدم من عْماقو
يرمي عارو عْلَى سْما
ولغيمة ڭلبها رْطب
تزكي دْموعها
فرْحة لْ جّايّات
وبْقيت رْهينة ل الشبكة
ولَمْساولة نشرت خزها
على حنْكْ اسهو
بْقى مْكاني بلا عتبة
وزْمان بير مالح ماه
لعتْرة ولدت عترات
ومشات
لحلمة على جناح الطير
تبابي فين تبات
مشا معاها
حْتيت جدّي
وبقات سْميتو
تتْلاوط بين حْفادو
ؤ كلها سَدْ عليه ل باب
بقاتْ لْ عين مْلاطمة
مع كذوب سْراب
و لحْلاوة جْدر
سايحْ ف ظلام تْراب
يْبلّلْ الظل من تنهيدة دْواية
تسرحْ ل حْروف
فْتاويها مع نْجوم الليل
تطوي لكنانش
تمْحي صدْر اللوح
 وتبقى لعادة الشهرية
شاهدة ع لْحب ل بكري
ولما يْجري
بلا وديان

شنو
نكون انايا
ولْ أرض مزال مْركباني
وظهر ل يّامْ حْدورة
يْكركبني فرحة بلا رْبيعْ
ولقصيدة

بلا شْوار سايڭاني --- عبدالله التويس
...
بقلم نورالدين حنيف
إطْلالَة ، في عالَم نورالدّين أمْغار
شَاعِرٌ ، قُدّتْ يَداهُ منْ عِشْقِ التّراب
...
منْ مَدِينَةِ الْحاجبْ ، يُرْسِلُ نورالدّين ، وَ فِي إصْرارٍ جميلٍ ، فِطْرَتَهُ الْمُبْدِعَة ، طُيوراً بِأجْنِحَةٍ تَقْتَرِضُها منْ قَوْسِ قُزَح ، تُحلّقُ بِها عالِياً في سَماواتِ الْإبْداعِ ، تَشْرَبُ منْ هذِه السّحابَة ، وتَنْهَلُ منْ تلك ... وَتَعومُ في بُحَيْراتِ الضّوْء قَبْلَ أنْ تَحُطّ الرّحالَ في قَلْبِ الشّاعِرِ وَ تُوَزّعَ علَيْنا رَفْرَفاتِها الْمُبَلّلَة بِعِشْقِ طلّ الصّباحاتِ الْمُبَكّرَة .

وَ تُطِلّ عَلَيْنا الْقَصِيدَةُ طائِراً يُحلّقُ في سَماواتِ الْوَطَنِ ، خارِجا منَ الدّمْعِ ، رافِضاً أنْ يَتَشَكّلَ ألَقُهُ بِحِبْرٍ غَيْرِ حِبْرِ الصّدْقِ الْمُنْفَلِتِ منْ أزْمِنَةِ التّخَشّبِ والْبَهْرَجَة الصّامِتَة صَمْتَ التّغَوّل ... منْ هُنا ، صاحَ الشّاعِرُ نورالدّين ، بِمِلْءِ فِيهِ أنّ الْقَضِيّةَ تَسْتَحِقّ أكْثَرَ منْ وَقْفَة ، وَ تَسْتَحِقّ أنْ تَبْكيَها الْعَيْنُ ...

والْحَدِيثُ هُنا سائِرٌ عَنِ الْوَطَن . لكِنّ السّؤالَ الّذي يَطْرَحُ ذاتَهُ هُوَ : لِمَ افْتَتحَ الشّاعِرُ زجَلِيّتَهُ بِالْبكاءِ عَلى الْحبِيبَة ؟ الْجوابُ وَ في الْحِينِ ، هُو أنّ الشّاعِرَ بِفِطْرَتِهِ الْأخّاذَة سارَ على دَرْبِ التّقْلِيدِ الشّعْرِيّ الْعَرَبي ، بانِياً مُقَدّمَتَهُ الْغَزَلِيّة كَمَطْلَعٍ يُخْلِصُ لِنَسْغِ الْقَصِيدَةِ الْأمّ ، وكأنّ الشّاعِرَ لا يُرِيدُ التّنكّرَ لِفُسَيْفِسَائِها الْجميل :
كتبت بدمع عياني
كتبت وحديت من المعاني
كتبت على حبيبي آلي نسآني

وَ كمْ هُوَ جمِيلٌ أيْضاً حُسْنُ التّخَلّصِ منَ الْمقَدّمة إلى الْغَرَضِ الشّعْرِيّ ، عَبْرَ جسْرِ الْحَبيبَة ... فَهِيَ الْمُتَخليّة ، ولمّا تَخَلّتْ عنْ حَبِيبِها بَقِيَ في حُشاشاتِها شَيءٌ منْ حتّى ، فَسَلّمَتْ حبِيبَها إلى الْوَطَن كَيْ عَلَيْهِ تَطْمئِن :
 حبيبي آلي نسآني
خلّا حرفي معلق بْ لوطاني

وَ لِمَ الْحَرْفُ بالذّات ؟ لأنّ الْيَراعَ الّذي كانَ يَسِيلُ في الْبكاءِ الْخاصّ ، سيَدْلِفُ إلى بابٍ أوسَعَ وأنْبَلَ وأجْدَر بِالتّعلّق ... منْ هُنا تأتِي الْكِتابَةُ عنِ الْوطَنِ خِياراً أوّليّاً يَفْرَحُ لَهُ الْحَرْفُ وَ يَهَشّ ويَبَشّ مَهْما كانَ حجْمُ الْجرح . لِهذا نَفْهَمُ تَمَوْقُفَ الْحُروفِ منْ فِعْلِ الْكِتابَة :
الليفْ ، واقفة مابغات ترجاني
والبا ، مجفنة على آمحاني
فينك يانون ، مضمر بالسكون

الْحرُوفُ لَيْسَتْ رافِضَة لِفِعْلِ الْعِناق ، بِقَدْرِ ماهِيَ مُشْتَعِلَة بِفِعْلِ الشّوقِ لِمُعانَقَة اللّقاءِ لِهذا الْوطَنِ في تَجَلّيّاتِهِ المُسْتَعْلِية على هَوامِشِ الذّات واهْتِماماتِها الْخاصّة ، وكأنّ الذّاتَ صَعِيدٌ وَ الْوطَنَ ماءٌ " يُرْفَعُ الْأوّلُ إذا حَضَرَ الثّانِي "

تُحْرِقُ الْكِتابَةُ أنامِلَ الشّاعِرِ رَماداً يَتجدّدُ عَنْقاءَ كُلّما أطَلّتْ على الضّوْءِ مَدِينَة منْ مُدُنِ الْجَنوبِ ، حُرْقَةً تتَحَوّلُ إلى أُوارٍ دافِئ يُرَحّبُ باسْتِكْمالِ الدّوائِر... ممّا يَسْتَدْعِي الْحرْفَ كيْ يَتَجَنّدَ لِمُعانَقَةِ " العيونْ والسّاقْية الْحمرا و طرْفايَة والدّاخْلَة و ... " أجْنِحَةٌ تَرْفَعُ الذّاتَ وتُحلّقُ بِها في رُبوعِ الْوطَنِ الْجميلِ في عَيْنِ الشّاعِرِ وفي عَيْنِ حُروفِه ... كيْ تَحُطّ بِهِ الرّحالُ في جَسَدِ الصّحْراءِ بِرِمالِها الْكاوِيَة كَيّ الْتّرْياقِ والشّفاء :
 هزني الريح أومالقى
حرفي فين آيطيح
طآح على الصحراء
ورمالها الكاوية بالنظرة

هذا هُوَ نورالدّين أمْغار ، كما عَرَفْتُهُ منْ خِلالِ شِعْرِهِ ، شاعِراً يَحْمِلُ على عاتِقِهِ غَيْرَةً نوْعِيّةً يُتَرْجِمُها حَرْفٌ زجَلِيّ واعٍ بتُخومِ الْفنّ ورِسالاتِ الْفَنّ . وَهُوَ يَرْكَبُ صَهْوَةَ الصّعْبِ ، يُذَلّـلُهُ وَيُطَوّعُهُ ، حتّى يُسْلِسَ لَهُ الْقِيادَ ، تُسْعِفُهُ في ذلِكَ حِكْمَتُهُ الْخاصّةُ بِهِ والّتي اسْتَقاها منْ أرْضٍ خِصْبَةٍ ومنْ يَدٍ أكْثَرَ خِصْبا .
...
انظر النصّ :

كتبت بدمع عياني
آكتبت وحديت من المعاني
آكتبت على حبيبي آلي نسآني
خلآا حرفي معلق بْ لوطاني
كتبت أوزدت خطاطت عاوتاني
الليفْ واقفة مابغات ترجاني
والباء مجفنة على آمحاني
فينك يانون مضمر بالسكون
أواش هكدا تكون
ضاير آوحارق من كانون
وكتبت على العيون
الساقية الحمراء
أوطرفاية زينت الفنون
آرسمت البسمة من ديك الكلمة
آداخلة على بلآادنا بالنعمة
هزني الريح أومالقى
حرفي فين آيطيح
طآح على الصحراء
ورمالها الكاوية بالنظرة
واش نعمل ياحصرة
كيف نزورها حالي يبرا
والحمدلله آلي تسالى
من بلآدي الظلم والحكرة
آعلآش ياحرفي ماتفرح أوتزيد فالهظرة
...
بقلم : نورالدين حنيف





من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...