الثلاثاء، 13 يونيو 2023

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

 


من السؤال إلى التسليم

في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة )

للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

-        تمهيد :

في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف الشاعر الزجال عبدالحكيم خيي إبداعه اللهجي لممارسة حقه في فضح حالات النشاز الاجتماعي من أجل التعبير عن حقه في العيش الكريم له و لأمثاله ممن انكوتْ قلوبهم و جيوبهم بصهد فعل فاعل مفسدٍ مجهول و معلوم في نفس الآن .

و قد جنّد في تثبيت رؤيته الفنية الرافضة مجموعة من الزجليات البعيدة في عمقها الدلالي . و قد ضمّها في ديوان بخمسين صرخة بدأتْ بصرخة ( اعْلاشْ ) لتنتهي بنجوى ( نتْرجّاكْ ) . أي أنها بدأتْ بالسؤال المفتوح على الحيرة ، و انتهت بالتسليم إلى الخالق و القادر و الرحيم .

من السؤال إلى التسليم . هو ذا مسار هذا الديوان الموسوم بعنوان مفعم بالإثارة و الانزياح ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) . رحلةٌ فنية تمسك بقرار الفن من أجل حياة كريمة في إيمان كبير بدور الكلمة في التغيير الاجتماعي . و في أضعف الإيمان ، هي رحلة تستفز دينامية التغيير في الروح البشرية الغارقة في الصمت المبيّت .

-        في ثنايا العنوان :

اختار الشاعر عبدالحكيم لديوانه عتبة فاتحة لعالمه الزجلي الخاص ، صاغها في إطار عبارة دالة ( اخْيُوطْ الْڭَمْرَة ) . و هي عبارة نحولها إلى النحو العربي العالِم فنجدها مبتدأً لخبر محذوف تقديره ( هذه خيوط القمر ) . و لكن التعبير اللهجي أمدّ الدلالة بكثير من الظلال المعنوية و الدلالية الباعثة على السؤال المفتوح جدا . و العنوان المتوّج للديوان هو نفسه عنوان القصيدة رقم 23 ، و فيهما ، أي في الديوان و في القصيدة ، تمارس ( الْڭَمْرَة ) وظيفتها الإشعاعية داخل سياق معتم و مغلّف بطبقات من قشور الفساد ، و داخل سياق فارغ من الصوت و الهمس و الصراخ و الشجب و التنديد ... قال الزجال عبدالحكيم :

ڭَمْرَة دلات خيوطها

اخيوط مفتولة بالجوهر

منقوشة بحرف غالي

محفوظ بالجاه العالي

و نحن ندرك باعتبارنا قراء نمتلك مع الشاعر المشترك الثقافي :

·      أن القمر مذكر لا مؤنث

·      أن القمر ليس له خيوط

·      أن القمر يمتلك حضوره القوي ليلا

·      أن القمر ظاهرة نورانية في مخيالنا

·      أن القمر ارتبط في أنساقنا الذهنية بالمرأة

·      أنه ارتبط أيضا بالغزل

·      ...

و هذه التداعيات كلها حاضرة في نسق الشاعر الذهني إلا أن بعضها يلغي البعض الآخر ، لأن سياق المقال يؤكد على الدور الإيحائي بالدرجة الأولى . و لم يتحدث الشاعر عن ضوء القمر أو إشعاعه و إنما تحدث عن خيوط القمر و بالتأنيث ( الْڭَمْرَة ) بدلالة أقوى من التذكير . فالأنوثة هنا مصدر حياة : قال الزجال (ڭَمْرَة ادّلاتْ خيوطها – تلحف الكون بنورها – تبسم فم الزمان ببهاها ) .

و حيث إن الماحول معتم أعلنت عن إعتامه أغلب قصائد الديوان ، فإن الأمل باقٍ و قائمٌ لتبديد بعض هذا الإعتام ، ما دامت في الذات حشاشة روح ، عبّر عنها الزجال الشاعر بالمعادل النفسي و هو مفردة (الْڭَمْرَة ) ، و من ثمة فالقمر ينزاح عن وجوده الفلكي إلى وجود وظيفي رمزي يدل في عليائه على انتصار النور . قال الزجال عبدالحكيم :

من ڭَدام خيوط الْڭَمْرَة

ضباب لغدر غبر

و بانت النجوم تلالي

-        تجاوز المرآتية :

في تصوير الفساد لا يذهب الزجال عبدالحكيم مذهب المرآتية التسجيلية الواقفة عند حدود النسخ لمشاهد الواقع و تكرارها في بلادة مقيتة لا تقدم و لا تؤخر في مشروع الفن الشخصي لهذا الزجال شيئا . فهذه المرآتية إمكانٌ متوفر لكل ناظر للواقع و لكل ناقد له . إن الزجال عبدالحكيم يذهب في ذلك مذهب التصوير الفني الممتطي صهوات الانزياح اللهجي  في رؤية فنية تحاول الاجتهاد في الصوغِ الزجلي حتى يأتي ديوانه قيمة مضافة في مجال الزجل و في ساحاته ، لا تكراراً أو تركيماً لبضاعة محسوبة على الفن و ما هي بالفن .

و هذا التصوير الفني اللهجي ليس كلاما جزافيا يقول ليسجل ثقافة القول البرناسية ، و إنما يقول ليستفز المتلقي في دعته و استرخائه ، و من ثمة يحوّله من سلبيته التاريخية و يدفعه دفعاً إلى معانقة روح السؤال و المساءلة باعتبارهما أول خطوة لبدء مشروع التغيير .

-        انزياح المساءلة :

من أمثلة التصوير الفني الراكب صهوة المساءلة نذكر على سبيل التقريب :

القصيدة 1 – اعْلاشْ

اعْلاش بالهم و الغم

فاضت كيسان لعمر

و بلسان الحية

الفم يسوك و يعكر

و بمرود الغدر

العين تكحل الشفر

ص 6 من الديوان

نسجل أولا أن أداة الاستفهام اللهجية ( اعْلاشْ ) تتكرر سبع مرات في القصيدة التي تتألف من أربعة و أربعين سطرا هي في ظل الوزن الزجلي ( لمْبيّتْ ) اثنان و عشرون بيتا . بمعنى أن معدل التوارد لمقولة ( اعْلاشْ ) معدل مرتفع بارتفاع منسوب الغضب ، و بالتالي ارتفاع منسوب السؤال . لأن منسوب الفساد و ( الحڭرة ) زاد عن حدّه .

و أرى بأن أجلّ وصف لهذا التجاوز المقيت هو قول الزجال عبدالحكيم ( فاضت كيسان لعمر ) . ففي العبارة ما يدل على بلوغ السيل زباه ، في تصوير شعبي يمتح مادته من مقولة الكأس التي اجتهد فيها الوجدان المغربي و في تصوير حالات الفيضان بتحويل الوصف من مقولة الماء إلى مقولة العمر ، بمشترك بلاغي و دلالي هو انسياب كل من الماء و العمر في اتجاه النهايات و قابليتهما معاً للوعاء . و الكأس هنا تخرج من وجودها المتشيء إلى وجود زئبقي يشي بالاحتواء كما يشي بالفيضان أي الخروج عن الحد الممكن .

من هنا بلاغة الانزياح في قدرة الزجال الفنية على تطويع مفردة العمر و تحويلها إلى مادة سائلة متدفقة خارج الممكن لتعبر عن دلالات أعمق لا ترتبط بالمحتوِي و المحتوَى بقدر ما تعبّر عن حالة نفسية تكاد تتاخم مفردات اليأس و القنوط و التدمر .

و هنا بالذات ندرك قوة التعبير اللهجي في سيمياء التركيب في غير قصد ، فالشاعر لا يبني زجلياته داخل هذا الوعي السيميائي ، فهو ، أي الشاعر ، في حالة انبثاق . و ما يترتب عن هذا الانبثاق من تخريجات هي من صميم النقد و القراءة و التأويل .

نجد الخطاطة التالية فارضة نفسها كتأويل يمارس حضوره الفني عبر ما يلي :

-  الكأس : مقولة مادية من زجاج و أسطوانية الشكل و هي أداة من أدوات المطبخ توظف لأغراض الشرب و الزينة ...

-  العمر : مقولة زئبقية لا تقاس بالحيز المادي و تقاس بالحيز الزمني و ترتبط بصيروة و سيرورة الإنسان من المهد إلى اللحد بحساب السنوات ...

-  التركيب الدلالي : لا يلتقي هذان المؤشران السيميائيان إلا خارج مجال الحقيقة ، و أي تضام بينهما سيثير السؤال حول المعنى و فائض المعنى . من هنا التقاء العنصرين داخل المجاز ، أي داخل البلاغة و بتعبير آخر ، داخل المخيال الذي يبنيه و يثريه الانزياح .

استطاع الزجال عبدالحكيم أن يحول التوتر الدلالي بين الكأس \ المادة ، و العمر \ الزمن إلى انسجام لا يجد مصداقيته الفنية إلا في دوائر التأويل الواسعة  . هكذا تخرج العبارة ( فاضت كيسان العمر ) من حالة التشيؤ الدالة على السائل \ الماء إلى حالة التذمّر .

-        زجل المفارقة :

لا يقف الزجال عبدالحكيم عند حدود المفارقة ليسجلها في عبور سريع بقدر ما يرسمها و يسطر أسفلها سطرا غليظا باعتبارها واقعا مفروضا يستحق المساءلة الحارقة و الواعية بالتناقض .

اعْلاش الدودة بنت الدود

تصنع الحرير الحر

و هي لباسها عريان

ما خادتْ منو اشْبر

و قد لجأ الزجال إلى هذه المفارقة ، هنا و في سياقات أخرى كثيرة لإيمانه أنها قادرة على إقامة عالم جديد متخيّل على أنقاض عالم الواقع المعيش و المهدوم في وعي المبدع . و لأنها ثانيا صياغة لغوية قائمة على التناقض بين معنىً ظاهرٍ و آخر خفيّ . و قد امتطاها الزجال عبدالحكيم باعتبارها تعبيرا لغويا بليغا يهدف إِلى اسـتثارة القـارئ وتحفيـز ذهنـه .

لهذا اختار الزجال صورة الدودة  للتعبير عن حالة المفارقة بخلاف المغني عبدالهادي بلخياط الذي أدرجها في سياق التواضع . و عبدالحكيم هنا أبلغ لأنه لا يتغنى فقط بل يشجب و يدين حالة متناقضة و يضعها في قفص السؤال مادامت قد قتلتها البداهة و الألفة و لامبالاة الناس . فالدودة التي تصنع الحرير لا تلبسه ، و هذه صورة مفردة أعتبرها شجرة تخفي غابة من المفارقات ... و بالتالي فقدرها العراء رغم كونها مصدرا للدثار و الغطاء . و هنا تخرج المفارقة من تسجيل التناقض إلى الوخز الأسود لحال أوشك أن يصبح طبيعيا و عاديا و حريا ألا يحرك في الناس نقدا أو تذمرا أو حتى مساءلة بسيطة .

هكذا فالزجل في عرف الشاعر عبدالحكيم يتجاوز التصوير إلى التصوير الفني البليغ و المتسائل إلى الانزياحات الدلالية الموغلة في العمق إلى المفارقة الفاضحة للتناقضات المتغولة في المشهد الإنساني عامّة .

-        تيمات الديوان :

لا يهمنا في هذا المنبر الإشادة بقولنا إن الزجال عبدالحكيم طرح في ديوانه مجموعة من القضايا مثل الوطنية و الوعي الديني و الاجتماعي و الفلكلوري و الحقوقي و مواضيع العشق و تراث البداوة و المناجاة و الحكمة و النصيحة و سؤال الكينونة و الاخلاقيات و الحرية و الغربة و الخيانة و فن الكتبة و ... في زخم غزير من المواضيع .

و لا يهمنا رصدها تباعا الواحدة بعد الأخرى ، فهذا مبحث خاص لا نصيب فيه إصابات أحسن من المتخصصين فيه من أهل علم ذلك . و حسبنا هنا أن نقول إن الزجال عبدالحكيم و هو يرصد كل هذا الزخم من القضايا يمتلك بوصلة فنية لا تمر على الماحول المكتوي مرور الكرام . يسجل وقفته المتأملة و الناقدة و الطارحة للبديل الجمالي الذي لا يكتفي بمزالق التشخيص و يعبرها إلى ضفاف التعبير الفني و اللهجي المدين و الشاجب و المتمرد على تغول الفساد .

و يهمنا أن الزجال عبدالحكيم لا يعيش في الأبراج العاجية البعيدة عن قضايا الناس . و من هنا فهو يتبنى الزجل المعانق للوجدان المغربي . يسائله ويحلله و يقوّمه بعد أن ينتقده و و يشجبه ويرفضه ...

·      في فن المساءلة :

و علاش ضو الشمس

كمم وجهو و تغنبر

·      في فن الوطنية :

آها على بلادي آها

ما بغيتها تقاسي لهموم

نعشق ترابها و هواها

قلبي متولع بها مغروم

·      في فن التدين :

هي صلاة لفجر مولاة الهمة

كملات سعدي ضوّات ايامي

·      في فن الاخلاقيات :

الصدق و الكدوب سارو محاورين

على غرايبهم حروفي منظومة

·      في فن الحرية :

ترجيتك لله يا الطير الحر

علمني نطير كيف الطيور

·      في فن السخرية :

العود البركي مشا للحرت بلجامو

جر المحرات بسكتو

و التمون ف حزامو

العصا من وراه

و الدنابة قدامو

·      فن الغربة :

حياتي عداب عايش غريب

شعر راسي كساه الشيب

و غدر الزمان ف وجهي بادي

سوالف همي مفتولة بسبيب

و القائمة هنا طويلة لا ينفع معها حصر أو تسييج . و لقد اكتفينا بما يمثل لا بما يحصر لأننا نكتفي بالإشارة التي تسود على العبارة .

و الشاعر الزجال عبدالحكيم لا يرضى في هذا المقام بالعرض . أي أن ذائقته أكبر من أن تقف عند عرض الظواهر و القضايا و كأنه عالمٌ يجرد حصيلة التشخيص الذي لا يقدم في شأو التغيير شيئا ذا بال . و لكن الزجال احتار أن يشخص و يصف و يتجاوزهما إلى الكشف عن الخلل في أسلوب زجلي لهجي مبدع و فنان يرتقي بالزجل إلى مقامات الكشف العارف .

من ذلك :

·  طرحه لمقولة المساءلة بكل الحمولة الاستفهامية و تجاوزها الى الحمولة الاستنكارية ثم المتجاوزة و الرافضة عبر مواقف نقدية فاضحة تتغيّى التغيير أكثر من غايات البكاء و التشخيص الخاوي . واضعة في محك السؤال كلا من الفرد و الجماعة و الكينونة و المفارقة و إدانة المعلوم و المجهول .

·  إغناؤه النظم بألوان الغيرة الوطنية حتى يتأتي للذات و للأخر مشخصا في المتلقي تذوق الزجل في تساميه على الأنا الضاغطة و انفتاحها على الجماعة الأكثر مصداقية

·  ندرة الموضوع في حديثه عن صلاة الفجر . و هذا لعمري مبحث زجلي قلّ من طارحه الشجن . و هذا  يحسب للشاعر و يدخل في تميزه و فرادته .

·  لا يتطرق الزجال عبدالحكيم لموضوع الاخلاقيات من باب العرض المسطح ، بل يختار لذلك مدخلا ذكيا يرتبط بالوجدان المغربي ، فيصوغه صياغة تراثية ترتبط بفن الحلقة . قال : 

بسم الكريم نبداو يا السامعين 

 من قصة جوج نستافدو معلومة 

 الصدق و لكدوب سارو محاورين 

 على غرايبهم حروفي منظومة ... 

و هنا يكمن ذكاء المبدع و هو يصب القضية في قالب ممتع و مستثير لذكاء المتلقي هو أقرب إلى المسكوكة المتداولة بين الناس في الأدب الشعبي و خاصة في فن الحلقة . و هنا يتم نسج الزجل في فن الحكي بأبطال خارقين لا ينتمون للواقع بقدر ما ينتمون لعالم التجريد .

-        رِهانٌ وزني :

راهن الزجال عبدالحكيم من منطلق اختيار فنيّ على وزن زجلي موسوم بالقوة البنائية و الإيقاعية ، و يتعلق الأمر بصوغه جلّ زجلياته إن لم نقل كلّ زجلياته في ميزان ( المبيّتْ ) . و هو في هذا يخلص لنسق التشطير القديم و التراثي  عبر آلية ( لغْطا ؤ لفْراشْ ) .

و أعتبر هذا الاختيار نوعا من الموقف الفني يريد به الزجال أن يقول للزجالين : الأمر في بناء القصيدة داخل اللهجة ليس أمرا يسيرا و لا أمرا عابرا يتيح لمن هبّ و دبّ أن يقول فيه نثرا دارجا لا ضابط له و لا قواعد توجّهه . الأمر في الزجل أكبر من ذلك و أجلّ و أصعب في مقارنته بالقصيدة داخل اللغة العربية العالمة لأنها واضحة الضوابط و القواعد و متّفق عليها . أما في الزجل فالأمر محتلف جدا إلى درجة الإشكال .

اختار الزجال عبدالحكيم وزن ( المبيّتْ ) اختيارا واعياً نستفيد منه معه بما يلي :

·  المْبيّتْ يذكرنا بأصالة البيت الشعري الخليلي بما يفيد أن الشاعر أخلص لنسق إيقاعي ماضوي و تراثي و قوي الحضور

·  البناء داخل إيقاع ( لمبيّتْ ) بناء موجب لكثير من البراعة التي لا تتأتّى إلا لمن خبر العمود الخليلي خبرة معينة ، و ذلك لأن البناء داخل هذا الوزن هو مغامرة موسيقية غير مأمونة العواقب إلا على من أوتي فصل الخطاب

·  حرص الزجال على التشطير بين ( الغطا ) و ( الفراش ) هو حرص على موسقة الزجل و الذهاب بأذن المتلقي مذهبا جماليا يشد لحمة الجمالية شدّاً قويا و حريريا في نفس الآن

·      هذا البناء الإيقاعي يتيح للزجليات قابلية الغناء

·  و هو البناء الذي يقربها من فن الملحون و يهبها مصداقية الإنشاد بقوة

لهذا و أنت تتجول داخل ( اخْيوط الْڭَمْرَة ) ستجد أذنك مشدودة إلى الموسيقى التي تحترم ذائقتك و لا تزج بها في أتون الاضطرابات اللاوزنية . و بالتالي ستكتشف كم هو صعب أن تأتي بالقوافي و الأروية المتناغمة و الموحدة في هذا الكم من القصائد ، بما يفيد ثراء القاموس اللهجي عند الزجال عبدالحكيم ، و أنه لا تغلبه في بيان أو بناء الإيقاع مفردة من هنا أو من هناك ، في غير تعسف أو ليٍّ لأعناق الكلمات و الضغط عليها حتى تستجيب لرغبة الزجال المتكلم .

و يفيدنا أيضا أن لغة ( المرڭَد ) حاضرة و مسعفة و قد أمدّت الشاعر بما يناسب المقامات من قول فنيّ مسؤول و ناضج و لا نحس فيه أبداً قسرا أو ضغطا مهما كان .

و قد جربت مجموعة من الزجليات داخل هذا الديوان على مستوى الغناء فوجدت أغلبها منسابا انسيابا جميلا و رقيقا و سهلا و أنا أحاول الغناء ، و قد نجحت في ذلك أيما نجاح و أنا أشنف مسامعي بلذيذ النظم المتأتي من قدرة الزجال عبدالحكيم على الصوغ اللهجي الراقي .

-        خاتمة :

لا ننتهي من بحر الفاضل عبدالحكيم الزجلي إلا لنعشق الدخول في غماره مرة ثانية . فالديوان من تلكم الفصيلة الإبداعية التي لا نشبع من استلهامها في أي لحظة نعود لمعاينته أو لقراءته ، نظرا لما يحمله في ذاته من قدرة على التجدد كلما تغير سياق حال القراءة و ظروفها أو إكراهاتها . من هنا قولنا إن الزجال عبدالحكيم ليس من النوع الذي يبتغي تركيماً لفن القول بقدر ما هو من النوع الذي يقدم عملا فنيا مسؤولا و ناضجا و مُعلّما في نفس الآن . فهو يقدّم دروسا جيدة في فن البناء اللهجي للعبارة الزجلية ، و يقدم بناء انزياحيا بليغا و يقدم أيضا و أساساً إيقاعا ثابتا و متغيرا في نفس الآن . و هو الإيقاع الراكب صهوة نظم ( المبيّتْ ) الذكي و القادر على احتضان الحرف و الكلمة و العبارة و الانزياح في تلوينات موسيقية تتسم بمكر السهولة و تنضح بعمق الصعوبة . و هنا أقدم تحياتي العاليات للزجال عبدالحكيم على اجتهاده النوعي في الذود عن حمى الزجل في عهد موبوء بالرداءات التي يُصفّق لها في المؤسسات و في غير المؤسسات . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...