السبت، 29 أبريل 2023

إضاءة في ديوان ( جوج حْروف ) للزجاليْن : سعيد فكاكة و عبدالله الهواري بقلم نورالدين حنيف

 


إضاءة

في ديوان ( جوج حْروف )

للزجاليْن : سعيد فكاكة و عبدالله الهواري

بقلم نورالدين حنيف

==

 

أ – تمهيد :

نعلن أولا عن الخيط التقني و الفنّي الناظم لهذه المجموعة الزجلية ، فهي تطرح ذاتها للقارئ في نَسيجيْن  :

-  أولاُ : نسيجٌ مشترك يمتزج فيه الخطاب الزجلي بين صوتين مندمجين في مقولتيْ التشعب و الاختلاف عبر البحث السيميائي عن لهجة شعرية مشتركة ، يروم الشاعران من خلالها رسم المشترك الموضوعي و الصوغي القادر على توحيد المتعدد .

-  و ثانياً : نسيجٌ لكل زجال على حدةٍ يقدم فيه رؤيته الزجلية الخاصة و التي ينفصل فيها عن شريكه في التصور و الطرح و الصوغ .

و تكون القصيدة الأولى بعنوان ( رودانة ) أول سدى هذا النسيج . و فيها يبتدئ الحوارَ الزجالُ سعيد فكاكة عبر فتحة : قال سعيد . يدلي بدلوه في موضوع ( رودانة ) ثم يترك الدور لعبدالله الهواري عبر قفلة : قال عبدالله

و يكتفيان في مقام المحاورة ببسملة واحدة اعتبارا لقوتها على التغطية الدلالية . و في غضون الزجلية المتحاورة يحرص المتكلم الأول على بناء النسق الصوتي داخل إيقاع موسيقي صارم يحافظ على وزن المبيّتْ مع الحفاظ على وحدة روي القاف في الشطر الأول (لفْراش ) و روي النون في الشطر الثاني ( لغْطا ) . و إذا حافظ روي القاف على نسق السكون فإن روي النون ارتبط بحالتين من الصورة السمعية ، هما الإشباع بمدّ أو الارتباط بتاء مربوطة كأنها هاء السكت الطارحة نسقها الصوتي القويّ بامتياز .

و الجميل في ذلك أن المحاور الثاني ، عبدالله ، يحافظ على نفس الإيقاع بتفاصيله الدقيقة و لا يخرج عن تراتُبيته قيد أنملة ، مما يعطينا انطباعا عن تمكن الشاعرين من ناصية لهجة  ( المرڭد )  و التصرف فيها بشساعة وظيفية مبهرة و هي تتعامل مع المعجم المحلي و تقلباته الموسيقية و الدلالية ، داخل ما سُمّيَ نقدياً بفنّ المُعارَضَة .

و في محاورة ( السارحة ) التزم الشاعران بنفس النسق الإيقاعي بتوظيف أروية جديدة تنسجم مع طبيعة الموضوع الجديد و هما صوت الحاء الساكنة في ( لفْراشْ ) و صوت الراء المرتبطة بتاء التأنيث في ( لغْطا) ، بنفس التردد : قال سعيد ، ردّ عبدالله .

و في محاورة ( نواح الحروفْ ) التزم الزجالان بأروية اللام المشبعة و الفاء الساكنة ، في تردد ايقاعي يراكم التدفق الموسيقي في الأول ثم يحبسه في الثاني بدلالة مبيّتة .

ينتهي الديوان من هذه المحاورات المشتركة و عددها ثلاثة لينتقل إلى الصوغ الفردي لكل شاعر زجّال على حدة ، و يبدأ بقصائد عبدالله الهواري . و هي ستة عشرة قصيدة مرتّبة كالتالي : ( الدنيا و المالْ ، الڭَمْرة الْباكية ، صْلاةْ لفْجرْ ، يا قدس ، زهْرِي ، اطْريقْ الدّاتْ ، لالّة لقْصيدة ، تشْطيحْ الزْمانْ ، وعدي و يامي ، يلزمها لقطيع ، قصيدة عن سيدي عبدالرحمان المجدوب ، عشقتْ الزّين ، الغْيارْ ، جدبةْ لقلم ، الرّاڭدة ، الفايْقة بكري ) .

و يختم الديوان انسيابه بقصائد الشاعر سعيد فكاكة ، و عددها ستة عشرة قصيدة هي كالتالي : ( حيطْ لقصيدة ، ميزان لكلمة ، مرسولْ الكلمة ، الحرف اعْطِية ، كاينْ و كاينْ ، بنّة لحروفْ ، يا خيْتِي ، عام 2020 ، مكتوبي نصرْفو ، آلْعارْ إيلا ما ، اطلع انزل ، لالّة اعْنايتي ، نهاية الراحة ، الخسران لكبيرْ ، عدّلْ الرّكْبة ، جوهر لكلامْ ) و كأن العدد 16 يرغب في تحقيق نوع من التوازن الطباعي المرتبط بملء بياضات الديوان في صورة دلالية تعطي لكل زجال مساحة مناسبة للطرح و للبوح و للقول الشعري .

 

ب – القراءة السيميائية :

1 – تمثُّلات العلامة :

و نقصد بذلك ما يقع في ذهنية المتكلم في ديوان ( جوجْ حروفْ ) من تمثلات دينية ، و أخرى شعبية يرسلها الوجدان الجمعي و تلتقطها ذائقة المبدعيْن الزجاليْن في صوغٍ لهجيٍّ يتجاوز التوظيف التراثي إلى معانقة هذا التراث . و أول العلامة تنبعث من التمثّل الديني القاضي ببدء المشروع باسم الله في بداية الديوان . عن أبي هريرة : " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر ". *1 . و الثاني يتعلق بالتبرك بالرِّجل اليمنى . قال الزجالان : ( باسم اللهْ بالرْجل ليمْنَة نسبق ) . أي أن التبرك هنا ديني عبر مقولة الدخول إلى المشروع الفني الزجلي بالرجل اليمنى . عَنْ حَفْصَة : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ " *2 . و الثالثُ تمثّلٌ شعبي نابع من الوجدان الجمعي المغربي المرتبط بالاعتقاد بقدسية المكان . قال الزجالان : ( و التّسليمْ ل تْراب و احْجار رودانَة ) .

كل هذه التمثلات هي علاماتٌ دالّةٌ ترسم علاقة المبدع بالزجل داخل اعتبار روحي تمهيداً للاعتبار الفني . ذلك أن نظر الزجالين عبدالله الهواري و سعيد فكاكة إلى فن الزجل لا يقف عند حدود اللعبة الإبداعية الواقفة عند حدود الصوغ اللهجي عبر استعمال المفردة داخل الإدهاش الزجلي الممكن ، و إنما و أيضاً ، هو نظرٌ إلى التماس البركة من بؤرٍ دينية و شعبية كي يخرج هذا الزجل من مشكاتهما موفّقاً و مُباركاً و مشروعاً بمصداقية جمعية تلتقي عناصرها في المصدر الديني أولاً بأوّل .

و حيث إن المكان في بعض تجلياته الثقافية يكون محط بركة و كرامة و تميّز ، و حيث تكون له طقوسه الخاصّة ، فإن الزجاليْن في هذا المقام يستمدان من المكان بركته لإسقاطها على الموضوع ، أي على الزجل الملفوف في هذا الديوان ، و كأن لسان حالهما لا يتبرك ب ( رودانة ) كحيّز محاصر في جغرافية المكان ، بقدر ما يتبرّك بها كبؤرة متعالية و حاضنة للزجل الذي يكون في آخر المطاف طقساً يختلف عن كل الأنواع الأدبية الأخرى . فداخله لابد أن يسميَ الله و لابدّ أن يدخل مجاله بالرجل اليمنى  و لابد أن يعتقد أنه مضمار روحي و لو أنه إبداعٌ يمتطي اللهجة التي تستمد من طقس المكان  قوتها و إدهاشها و بركتها .

 

2 – المكانُ في الصّوغ الزجلي :

يحتلّ المكان في الديوان منزلة قوية الحضور من باب الانتماء أولاً في غير شوفينية ضيقة و لا قبَلية إقصائية . و يكاد الديوان يقرّبنا من ( رودانة ) أي من ( تارودانت ) التي نخص بها الذكر هنا تمثيلاً لا حصرا ، داخل طقس روحي يكاد يتاخم حدود الزاوية في أبعادها الاجتماعية و الاقتصادية و الروحية . و الإشارة السيميائية واردة بوضوح في قول الزجال سعيد فكاكة ، قال :

باسْمِ الله ب الرْجَلْ لِيمْنَة نَسْبَقْ

والتَسْليمْ ل تْرابْ واحْجَار رُودَانَة

كما هي واردة أيضا في رد الزجال عبدالله الهواري تكشف هذا البعد الروحي . قال :

النُورْ فْ جْنَابْها منْ مُدَة شْرَقْ

بْطَبعها وَلَّفة لَلقْلُوبْ فَتَانة

و من ثمّة ، فالمكانُ في المتخيل الزجلي يتحول من فضاء متحيّز إلى دلالة قصوى على المعنى و فائض المعنى ، و فيه تصبح ( رودانة ) بؤرة مفجرة لكثير من الدلالات الماتحة قوتها من الحضور النوعي للمكان . و هو حضورٌ يأخذ بُعد الزاوية في تجليها الروحي المشبع بالنور و الإشراق و القبول . و كذا في تجليها الاجتماعي باعتبارها مكانا للضيافة و الكرم و الإيواء :

فكاكة :

هَادِي رُودَانَة يَا مَن لَا شَافْهَا

تْرَحَبْ ب جْمِيعْ الناس دُونْ فَرقْ

...

الهواري :

دِيكْ الخَاوَة الزَايدَة مْحَبة وْحنَانة

فِيها المسْكِينْ يِعِيشْ يٍسْهَالْ الرَزقْ

كما ترد ( رودانة ) في بعدها العالم باعتبارها مدينة حاضنة للفن وللعلم و للاجتهاد و للحكمة :

فكاكة :  تَارِيخِ مْرصّعْ ب حَكْمَة و رْزَانَة

الهواري : البَرَّاني ذَابْ ف بْحَر هْوَاها غْرَقْ

منهُمْ مَشَاهِيرْ رؤَسَا وْفنَانة

و ( رودانة ) مكانٌ لا يتم استحضاره في بذخ السياحة و ترف الثقافة ، بل يتم استحضاره في نسغ الهوية و الوجود و المشترك الجامع لفسيفساء التكوين :

مَنْ فْضَلْ الله تْرَابْهَا جَامْعَانَا

هَادِي رُودَانَة يَا مَن لَا شَافْهَا

ناهيك عن فضاءاتها الطبيعية و خيراتها و هوائها و زينتها و تاريخها المتجذر، كل ذلك في إطار وصفي لا يسجل في مرآتية ناقصة بقدر ما يمارس التصوير التخييلي القادر على وظيفتين : وظيفة الإمتاع و وظيفة الإقناع .

 

3 – الزجل في سيمياء الواقع :

يربأُ الزجالان ( سعيد و عبدالله ) بالزجل أن يكون كلاما دارِجاً تصوغه الذات طلباً للإمتاع الشعري و إن كان هذا مطلبا جميلا ، و من ثمّة فهما يرسلان القصائد في غائيةٍ رسالية تهدف إلى معانقة القضايا الشائكة داخل فنّ الزجل حتى لا يبقى مقيما في الأبراج العاجية . و هذا لا يعني أن الزجاليْن سقطا في معانقة الواقع فيما يُسمى بالْمِرآتية التسجيلية لأنهما على وعي فنّي بأن الشعر لا يقوم بوظيفة الآلة الفوتوغرافية . إنه أكبر من عينٍ راصدة  في حَرْفيةٍ مسطّحة . الزجل انزياحٌ فنّي يقفزُ بالواقع من حالة التشوّه إلى حالات الاستواء . و من حالة البداهة التسجيلية إلى حالات الإدهاش المستفز لذائقة المتلقي المسترخي في أرائك القراءات الاستهلاكية .

و أول الصّدْحِ في سيمياء الواقع رسمُ الزجاليْن لجائحة الوباء ( كوفيد ) داخل وعيٍ لهجِيٍّ لا يتأخر عن متابعة الماحول ، و لا يتخلف عن مسايرة التحولات الموضوعية المؤثّرة في الإنسان . قال الشاعران وهما يرسمان في سخرية سوداء ، اكتساحَ الوباء للأرواح و هو ينشر فكرة الموت الزؤام :

الهواري : جَايَا سَارْحَة و تَحْصَدْ لارْوَاحْ

مَاخَلَاتْ فْدَان مَا خَلّاتْ بْحِيرَة

فكاكة : يا بْنَادم رِيحْ المُوت فَاحْ

  حْريرة واش من حْريرَة

و بهذا و مثيلهِ يكون الزجل في تصور الشاعرين وقفة احتجاجية سيميولوجية تستثمر العلامة اللغوية لتفضح تغوّل الماحول في توجّه أدبي رسالي يقطع مع تيار البرناسية الفاتكة بالفن باسم الفن . و الزجل هنا يرفض فيما يرفض ، فكرة الهروب الى الأبراج العاجية ، ليعانق بدائل التماهي مع الواقع في تفاصيله الممكنة .  و لنستمع إلى الزجال الهواري و هو يلتقط جزئية المال و حطام الدنيا ليصوغ منها بؤرة لهجية انزياحية تُعرّي في احترافية شعرية لغةَ النفس الموبوءة و هي تنجذب سلبا إلى وهمِ الدنيا ، في صياغةٍ لهجية ساخرة سخريةً سوداء تذكّرنا بمقولة الضحك الأسود عند الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي .

اللي يِجْدب مَلْهُوف الكَرْش عندُ كْبِيرَة

جَاعْت النفُوسْ ؤ جُوعْ النَفْسْ صْعِيب

و هي السخرية التي يتبناها الديوان في قدرة إبداعية على فهم روح الواقع الذي تسيجه المأساةُ في مكر النكتة .  و لعمري إنها مهمّة شاقة لا يقدر عليها  إلا أديب ذو أصالة ذاتية متميزة في اقتناص لحظات الفرح داخل مدلهمات الحزن. انظر أيها القارئ إلى وضعية الجشع في المثال أعلاه ، و كيف أسند الشاعر الجوع لا إلى الموصوف الإنسان و إنما أسندها إلى النفس ، و الفرق كبير بين وخز هذا و خفة ذاك .

من هنا فالديوان يمارس حقه في الاستعلاء الساخر داخل الوعي النافذ إلي النهايات البعيدة و الغائرة في النفس البشرية .  و هذا الجنوح في التعبير نجده عند الزجال سعيد فكاكة أيضا في إطار تكامل التصور و الصوغ . و لكن سعيداً كان أقلّ سخرية من الشاعر عبدالله الهواري و استعاض عنها بمقولة الحكمة و هذا لا يعني أن الهواري طرح زجلا خاويا من الحكمة . فلكل منهما حظه في هذا و في ذاك . و كلا النمطين من الصوغ يقوم بوظيفة النقد و التقويم ... و لنستمع إلى سعيد و هو يشخص في غير سوداوية ، بل بنفَسٍ زجلي يتقطّر حكمةً قبل ان يتصفّدَ حسرة :

يَاكْ الدَّنْيَا مَسَاوْيَانَا حَتَّى فْ لَكْدَارْ

شْملْنَا وَاحَد و مْفَرْقانَا شَلّا فْكَارْ

شِ يْغَرّب شِ يْشَرَقْ ؤ يَا حَسرَة جَارْ

 

4 – رؤيا متعددة :

لا تقفُ بوصلة الرصد الزجلية في هذا الديوان عند رؤية الموضوع ، بل تتجاوزها إلى رؤيا الموضوع . و هي في عمقها بوصلة  تشتغل على رصد المعنى في تجلياته الممكنة و كأنني بالشاعريْن يسكنهما إحساسٌ بالغيرة على الماحول و كأنهما مسؤولان عنه في رسالية المثقف العضوي المنخرط ، لا في عزلة المثقف العاجي المذعن . و من هذه التجليات المؤسسة لتعددية الرؤيا بين أغراض ذاتية و أخرى موضوعية نذكر على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، لأن المقام هنا مقام إضاءات لا مقام مقاربات :

-  الإشادة بالهوية عبر مقولة المكان و تحديدا عبر مقولة المدينة الموسومة في الديوان بسمات الانتماء المنفتح .

-  ذمّ الدهر و الفساد و تغوّل الشر في حكمة بانية من جهة و في سخرية فنية واخزة من جهة ثانية

-  الحث على الخير و الفضائل و السلوك الحسن . و في هذا المنبر رام الزجالان تجنب التقليد و التكرار و الشبه في الدعوة الى المكارم . و من حسنات طرحهما أنهما مجّدا صلاة الفجر التي قلّما انتبه لقيمتها الشعراء .

-  الحرص على تكريس قيم الاسرة و دورها في الحفاظ على النسيج الاجتماعي السليم . من ذلك نذكر زجلية ( لالّة عْنايتي )

-  موضوعة العشق حاضرة لكن في لبوس الوجد النقي و الراقي و الموسوم في تراثنا العربي بالغزل العذري . و منه يشكل الزجالان منبرا للبوح و اطِّراح لواعج الغرام في لهجة زجلية تتغلّف في الصياغة الملحونية الرقيقة و الشفافة . أنظر مثلا قصيدتي الشاعرين ( الفايْقة بكري  و  مرسول الكلمة )

-  استحضار البعد الإقليمي في الزجل المغربي عبر التغني بقضايا فلسطين و القدس .

-  الزجل في عرف الشاعرية بوصلة تلتقط الماحول و تستيره و تسجل نتوءاته و تطرحها لميزان النقد و النقد الساخر في اطار معالجة القضايا عبر وسائط الكلمة الإدهاشية ... زجلية ( السارحة نموذجا )

-  ناهيكَ عن تيمات أخرى تتعدد بتعدد سياقات الطرح و سياقات انكواء الشاعرية في غير عزلة بإكراهات الماحول و شروطه القاهرة .

و في هذا الانفتاح الزجلي بواسطة اللهجة الملحية ينبثق مشروع الشاعرية عبدالله الهواري و سعيد فكاكة حاملا أداةَ الحرف المحلّق و الكلمة الحرة الخارجين من بؤر الذوات الواعية بشرط الحكمة الشعرية و هي تصف الموضوع في غير سطحية ، و تتعامل معه من باب الشِّعرِيّة في توهّجها المطلوب و التي تستحضر المتلقي في عنفوان التواصل الجمالي البعيد عن دغدغة الوجدان الشعبي ، و القريب جدا من محاورة هذا الوجدان في ذكائه المتحول و الحركي .

 

5 – فنّ الكتابَة الزجلية :

نختم الإضاءة بهذا المحور الذي أعتبره تنظيرا في غير تنظير لمسألة الكتابة الزجلية لدى الشاعرين معاً . و هما ، أي الزجاليْن ، يعتبران الزجل معاناة لا ترفاً فنيا يستجدي المتلقي في عتبات الإمتاع و المؤانسة . و خير دليل على ذلك انتشار المعجم اللهجي السائر في هذا الاتجاه  ( نواح لحروف – زنّد لفاخر – حب القلم و الورقة – نجبر كسر لقصيدة – ما يهمني الا كان سومو غالي ، أي الحرف – طرف مني خارج من الجوف ... دْمُوعْ الضَّادْ حارّة تَقْطُرْ - نَازْلَة سْخُونَة على الخْدُودْ  )

كما يعتبران الكتابة خروجا فروسيا ينبثق من إيمان الزجاليْن بأن الابداع مغامرة على مطية وعرة و صهوة جموح . و في هذا الإطار نجدهما يربطان فن الزجل بمفهوم السربة في نتوهّجها المغربي الشعبي : ( سَرَجْ عَودْ القْصِيدَة يَتْبورَدْ حْروفْ - كِيفْ السّرْبَة كَبَّة جَايَة قْبالِي -  رَاكْب على عَوْدِي ونْشَالْي - مْهَاجْرْ نْبَرِيْ عَلْ الحْرُوفْ ...

و يعتبر الزجل في تصورهم مادة فنية زئبقية تتملص عن القبض ، و لا تستشير صاحبها في الحضور و تتمنع كما تشاء و تفرض أزمنتها الخاصة ( أوْقَاتْها مَاهيَ وَقْت عَادِيَة مَاهِيَ عِيدْ  - لَاهِيَ ضَحْوَية ولَا سَرْوِية وَلَا سْحُورْ ) و قد ينساب أذا ما كان الزجال ماكرا يعرف كيف يستدعي الخيال ( يسْرَحْ خْيالِي يَخْتارْ النْظَمْ - الحَرفْ يْغَازَلْنِي لِيَا يَنْسَابْ )

 

-        الختم :

نكتفي بهذا القدر من الإضاءة و نحن لا نجزم في النتائج و لا نحسم ، إن هي إلا محطات قاربنا فيها الديوان من أجل قارئ مستعجل يروم الاطلاع تمهيدا للاستمتاع الفكري المتريث . و الديوان في كله و جله مشروع فني بحدين : حد المشترك الفني الذي نجح فيه الشاعران أيما نجاح و هما يبصمان على الوجدان الجمعي ببصمة تكاد تتجانس و تتناغم دون أن تذيب شاعرا في الآخر ... ثم بصمة الذات الشاعرة المفردة و المتفردة بطرحها و التي تبدو للقارئ المتسرع أنها اندمجت حدّ الامّحاء في الشريك . و هذا تصور متسرع و خاطئ لأن الذات المتكلمة هنا و هناك حافظت في لا وعيها على خصوصية الصوغ الزجلي لكل من الشاعرين . و لو أنهما اتفقا في وعي البناء لا في وعي الشعور و الإحساس و الصوغ اللهجي .

و يبقى ديوان ( جوج حروف ) تجربة زجلية تضيف الى الساحة الثقافية ضوءا جديدا في الابداع اللهجي بما يمثله من أصالة رودانية تتفتّق فيها عبقرية القول عن فنٍّ مسؤول و ناضج و واعد . و بما تمثله على مستوى العمل الفني المشترك الذي يطرح أكثر من صعوبة لأن الشاعر فيه لا يخلو من قيدٍ حريري يلتزم فيه بشروط الجماعة الثنائية و لا يكاد يتملص منها حتى يعود لسلطانها . و المبهر في هذا الديوان أن الزجاليْن عرفا كيف يطوعان سلطان المشترك داخل بؤرة زجلية لهجية ذكية استطاعت أن تقول دون أن تتكلف في القول ، و دون أن تقتل الطبع على مقاصل التطبع و التصنيع الزجلي .

 

 

 

*1 - حديث حسن روي موصولا ومرسلا، ورواية الموصول إسنادها جيد  .  أخرجه أبو داود والنسائي  وابن ماجه  باختلاف يسير، وأحمد  بنحوه.

*2 – رواه أبو داود و أحمد و صححه الألباني .

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...