إضاءة
في ديوان ( جوج حْروف )
للزجاليْن : سعيد فكاكة و عبدالله الهواري
بقلم نورالدين حنيف
==
أ – تمهيد :
نعلن أولا عن الخيط التقني و الفنّي الناظم لهذه المجموعة الزجلية ، فهي
تطرح ذاتها للقارئ في نَسيجيْن :
- أولاُ : نسيجٌ مشترك يمتزج فيه الخطاب الزجلي
بين صوتين مندمجين في مقولتيْ التشعب و الاختلاف عبر البحث السيميائي عن لهجة
شعرية مشتركة ، يروم الشاعران من خلالها رسم المشترك الموضوعي و الصوغي القادر على
توحيد المتعدد .
- و ثانياً : نسيجٌ لكل زجال على حدةٍ يقدم فيه رؤيته
الزجلية الخاصة و التي ينفصل فيها عن شريكه في التصور و الطرح و الصوغ .
و تكون القصيدة الأولى بعنوان ( رودانة ) أول سدى هذا النسيج . و فيها يبتدئ
الحوارَ الزجالُ سعيد فكاكة عبر فتحة : قال سعيد . يدلي بدلوه في موضوع ( رودانة )
ثم يترك الدور لعبدالله الهواري عبر قفلة : قال عبدالله
و يكتفيان في مقام المحاورة ببسملة واحدة اعتبارا لقوتها على التغطية
الدلالية . و في غضون الزجلية المتحاورة يحرص المتكلم الأول على بناء النسق الصوتي
داخل إيقاع موسيقي صارم يحافظ على وزن المبيّتْ مع الحفاظ على وحدة روي القاف في
الشطر الأول (لفْراش ) و روي النون في الشطر الثاني ( لغْطا ) . و إذا حافظ روي
القاف على نسق السكون فإن روي النون ارتبط بحالتين من الصورة السمعية ، هما
الإشباع بمدّ أو الارتباط بتاء مربوطة كأنها هاء السكت الطارحة نسقها الصوتي القويّ
بامتياز .
و الجميل في ذلك أن المحاور الثاني ، عبدالله ، يحافظ على نفس الإيقاع
بتفاصيله الدقيقة و لا يخرج عن تراتُبيته قيد أنملة ، مما يعطينا انطباعا عن تمكن
الشاعرين من ناصية لهجة ( المرڭد ) و التصرف فيها بشساعة وظيفية مبهرة و هي تتعامل
مع المعجم المحلي و تقلباته الموسيقية و الدلالية ، داخل ما سُمّيَ نقدياً بفنّ
المُعارَضَة .
و في محاورة ( السارحة ) التزم الشاعران بنفس النسق الإيقاعي بتوظيف أروية
جديدة تنسجم مع طبيعة الموضوع الجديد و هما صوت الحاء الساكنة في ( لفْراشْ ) و
صوت الراء المرتبطة بتاء التأنيث في ( لغْطا) ، بنفس التردد : قال سعيد ، ردّ
عبدالله .
و في محاورة ( نواح الحروفْ ) التزم الزجالان بأروية اللام المشبعة و الفاء
الساكنة ، في تردد ايقاعي يراكم التدفق الموسيقي في الأول ثم يحبسه في الثاني
بدلالة مبيّتة .
ينتهي الديوان من هذه المحاورات المشتركة و عددها ثلاثة لينتقل إلى الصوغ
الفردي لكل شاعر زجّال على حدة ، و يبدأ بقصائد عبدالله الهواري . و هي ستة عشرة
قصيدة مرتّبة كالتالي : ( الدنيا و المالْ ، الڭَمْرة الْباكية ، صْلاةْ لفْجرْ ،
يا قدس ، زهْرِي ، اطْريقْ الدّاتْ ، لالّة لقْصيدة ، تشْطيحْ الزْمانْ ، وعدي و
يامي ، يلزمها لقطيع ، قصيدة عن سيدي عبدالرحمان المجدوب ، عشقتْ الزّين ،
الغْيارْ ، جدبةْ لقلم ، الرّاڭدة ، الفايْقة بكري ) .
و يختم الديوان انسيابه بقصائد الشاعر سعيد فكاكة ، و عددها ستة عشرة قصيدة
هي كالتالي : ( حيطْ لقصيدة ، ميزان لكلمة ، مرسولْ الكلمة ، الحرف اعْطِية ،
كاينْ و كاينْ ، بنّة لحروفْ ، يا خيْتِي ، عام 2020 ، مكتوبي نصرْفو ، آلْعارْ
إيلا ما ، اطلع انزل ، لالّة اعْنايتي ، نهاية الراحة ، الخسران لكبيرْ ، عدّلْ
الرّكْبة ، جوهر لكلامْ ) و كأن العدد 16 يرغب في تحقيق نوع من التوازن الطباعي
المرتبط بملء بياضات الديوان في صورة دلالية تعطي لكل زجال مساحة مناسبة للطرح و
للبوح و للقول الشعري .
ب – القراءة السيميائية :
1 – تمثُّلات العلامة :
و نقصد بذلك ما يقع في ذهنية المتكلم في ديوان ( جوجْ حروفْ ) من تمثلات دينية
، و أخرى شعبية يرسلها الوجدان الجمعي و تلتقطها ذائقة المبدعيْن الزجاليْن في
صوغٍ لهجيٍّ يتجاوز التوظيف التراثي إلى معانقة هذا التراث . و أول العلامة تنبعث
من التمثّل الديني القاضي ببدء المشروع باسم الله في بداية الديوان . عن أبي هريرة
: " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر ". *1
. و الثاني يتعلق بالتبرك بالرِّجل اليمنى . قال الزجالان : ( باسم اللهْ بالرْجل
ليمْنَة نسبق ) . أي أن التبرك هنا ديني عبر مقولة الدخول إلى المشروع الفني
الزجلي بالرجل اليمنى . عَنْ حَفْصَة : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ
يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا
سِوَى ذَلِكَ " *2 . و الثالثُ تمثّلٌ شعبي نابع من الوجدان الجمعي المغربي
المرتبط بالاعتقاد بقدسية المكان . قال الزجالان : ( و التّسليمْ ل تْراب و احْجار
رودانَة ) .
كل هذه التمثلات هي علاماتٌ دالّةٌ ترسم علاقة المبدع بالزجل داخل اعتبار
روحي تمهيداً للاعتبار الفني . ذلك أن نظر الزجالين عبدالله الهواري و سعيد فكاكة
إلى فن الزجل لا يقف عند حدود اللعبة الإبداعية الواقفة عند حدود الصوغ اللهجي عبر
استعمال المفردة داخل الإدهاش الزجلي الممكن ، و إنما و أيضاً ، هو نظرٌ إلى
التماس البركة من بؤرٍ دينية و شعبية كي يخرج هذا الزجل من مشكاتهما موفّقاً و
مُباركاً و مشروعاً بمصداقية جمعية تلتقي عناصرها في المصدر الديني أولاً بأوّل .
و حيث إن المكان في بعض تجلياته الثقافية يكون محط بركة و كرامة و تميّز ،
و حيث تكون له طقوسه الخاصّة ، فإن الزجاليْن في هذا المقام يستمدان من المكان
بركته لإسقاطها على الموضوع ، أي على الزجل الملفوف في هذا الديوان ، و كأن لسان
حالهما لا يتبرك ب ( رودانة ) كحيّز محاصر في جغرافية المكان ، بقدر ما يتبرّك بها
كبؤرة متعالية و حاضنة للزجل الذي يكون في آخر المطاف طقساً يختلف عن كل الأنواع
الأدبية الأخرى . فداخله لابد أن يسميَ الله و لابدّ أن يدخل مجاله بالرجل اليمنى و لابد أن يعتقد أنه مضمار روحي و لو أنه إبداعٌ
يمتطي اللهجة التي تستمد من طقس المكان قوتها و إدهاشها و بركتها .
2 – المكانُ في الصّوغ الزجلي :
يحتلّ المكان في الديوان منزلة قوية الحضور من باب الانتماء أولاً في غير
شوفينية ضيقة و لا قبَلية إقصائية . و يكاد الديوان يقرّبنا من ( رودانة ) أي من (
تارودانت ) التي نخص بها الذكر هنا تمثيلاً لا حصرا ، داخل طقس روحي يكاد يتاخم
حدود الزاوية في أبعادها الاجتماعية و الاقتصادية و الروحية . و الإشارة
السيميائية واردة بوضوح في قول الزجال سعيد فكاكة ، قال :
باسْمِ الله ب الرْجَلْ لِيمْنَة نَسْبَقْ
والتَسْليمْ ل تْرابْ واحْجَار رُودَانَة
كما هي واردة أيضا في رد الزجال عبدالله الهواري تكشف هذا البعد الروحي .
قال :
النُورْ فْ جْنَابْها منْ مُدَة شْرَقْ
بْطَبعها وَلَّفة لَلقْلُوبْ فَتَانة
و من ثمّة ، فالمكانُ في المتخيل الزجلي يتحول من فضاء متحيّز إلى دلالة
قصوى على المعنى و فائض المعنى ، و فيه تصبح ( رودانة ) بؤرة مفجرة لكثير من
الدلالات الماتحة قوتها من الحضور النوعي للمكان . و هو حضورٌ يأخذ بُعد الزاوية
في تجليها الروحي المشبع بالنور و الإشراق و القبول . و كذا في تجليها الاجتماعي
باعتبارها مكانا للضيافة و الكرم و الإيواء :
فكاكة :
هَادِي رُودَانَة يَا مَن لَا شَافْهَا
تْرَحَبْ ب جْمِيعْ الناس دُونْ فَرقْ
...
الهواري :
دِيكْ الخَاوَة الزَايدَة مْحَبة وْحنَانة
فِيها المسْكِينْ يِعِيشْ يٍسْهَالْ الرَزقْ
كما ترد ( رودانة ) في بعدها العالم باعتبارها مدينة حاضنة للفن وللعلم و
للاجتهاد و للحكمة :
فكاكة : تَارِيخِ مْرصّعْ ب
حَكْمَة و رْزَانَة
الهواري : البَرَّاني ذَابْ ف بْحَر هْوَاها غْرَقْ
منهُمْ مَشَاهِيرْ رؤَسَا وْفنَانة
و ( رودانة ) مكانٌ لا يتم استحضاره في بذخ السياحة و ترف الثقافة ، بل يتم
استحضاره في نسغ الهوية و الوجود و المشترك الجامع لفسيفساء التكوين :
مَنْ فْضَلْ الله تْرَابْهَا جَامْعَانَا
هَادِي رُودَانَة يَا مَن لَا شَافْهَا
ناهيك عن فضاءاتها الطبيعية و خيراتها و هوائها و زينتها و تاريخها المتجذر،
كل ذلك في إطار وصفي لا يسجل في مرآتية ناقصة بقدر ما يمارس التصوير التخييلي
القادر على وظيفتين : وظيفة الإمتاع و وظيفة الإقناع .
3 – الزجل في سيمياء الواقع :
يربأُ الزجالان ( سعيد و عبدالله ) بالزجل أن يكون كلاما دارِجاً تصوغه
الذات طلباً للإمتاع الشعري و إن كان هذا مطلبا جميلا ، و من ثمّة فهما يرسلان
القصائد في غائيةٍ رسالية تهدف إلى معانقة القضايا الشائكة داخل فنّ الزجل حتى لا
يبقى مقيما في الأبراج العاجية . و هذا لا يعني أن الزجاليْن سقطا في معانقة
الواقع فيما يُسمى بالْمِرآتية التسجيلية لأنهما على وعي فنّي بأن الشعر لا يقوم
بوظيفة الآلة الفوتوغرافية . إنه أكبر من عينٍ راصدة في حَرْفيةٍ مسطّحة . الزجل انزياحٌ فنّي يقفزُ بالواقع
من حالة التشوّه إلى حالات الاستواء . و من حالة البداهة التسجيلية إلى حالات
الإدهاش المستفز لذائقة المتلقي المسترخي في أرائك القراءات الاستهلاكية .
و أول الصّدْحِ في سيمياء الواقع رسمُ الزجاليْن لجائحة الوباء ( كوفيد )
داخل وعيٍ لهجِيٍّ لا يتأخر عن متابعة الماحول ، و لا يتخلف عن مسايرة التحولات
الموضوعية المؤثّرة في الإنسان . قال الشاعران وهما يرسمان في سخرية سوداء ، اكتساحَ
الوباء للأرواح و هو ينشر فكرة الموت الزؤام :
الهواري : جَايَا سَارْحَة و تَحْصَدْ لارْوَاحْ
مَاخَلَاتْ فْدَان مَا خَلّاتْ بْحِيرَة
فكاكة : يا بْنَادم رِيحْ المُوت فَاحْ
حْريرة واش من حْريرَة
و بهذا و مثيلهِ يكون الزجل في تصور الشاعرين وقفة احتجاجية سيميولوجية
تستثمر العلامة اللغوية لتفضح تغوّل الماحول في توجّه أدبي رسالي يقطع مع تيار
البرناسية الفاتكة بالفن باسم الفن . و الزجل هنا يرفض فيما يرفض ، فكرة الهروب
الى الأبراج العاجية ، ليعانق بدائل التماهي مع الواقع في تفاصيله الممكنة . و لنستمع إلى الزجال الهواري و هو يلتقط جزئية
المال و حطام الدنيا ليصوغ منها بؤرة لهجية انزياحية تُعرّي في احترافية شعرية
لغةَ النفس الموبوءة و هي تنجذب سلبا إلى وهمِ الدنيا ، في صياغةٍ لهجية ساخرة
سخريةً سوداء تذكّرنا بمقولة الضحك الأسود عند الروائي الفلسطيني الراحل إميل
حبيبي .
اللي يِجْدب مَلْهُوف الكَرْش عندُ كْبِيرَة
جَاعْت النفُوسْ ؤ جُوعْ النَفْسْ صْعِيب
و هي السخرية التي يتبناها الديوان في قدرة إبداعية على فهم روح الواقع
الذي تسيجه المأساةُ في مكر النكتة . و
لعمري إنها مهمّة شاقة لا يقدر عليها إلا
أديب ذو أصالة ذاتية متميزة في اقتناص لحظات الفرح داخل مدلهمات الحزن. انظر أيها القارئ إلى وضعية
الجشع في المثال أعلاه ، و كيف أسند الشاعر الجوع لا إلى الموصوف الإنسان و إنما
أسندها إلى النفس ، و الفرق كبير بين وخز هذا و خفة ذاك .
من هنا فالديوان يمارس حقه في الاستعلاء الساخر داخل الوعي النافذ إلي
النهايات البعيدة و الغائرة في النفس البشرية . و هذا الجنوح في التعبير نجده عند الزجال سعيد
فكاكة أيضا في إطار تكامل التصور و الصوغ . و لكن سعيداً كان أقلّ سخرية من الشاعر
عبدالله الهواري و استعاض عنها بمقولة الحكمة و هذا لا يعني أن الهواري طرح زجلا
خاويا من الحكمة . فلكل منهما حظه في هذا و في ذاك . و كلا النمطين من الصوغ يقوم
بوظيفة النقد و التقويم ... و لنستمع إلى سعيد و هو يشخص في غير سوداوية ، بل بنفَسٍ
زجلي يتقطّر حكمةً قبل ان يتصفّدَ حسرة :
يَاكْ الدَّنْيَا مَسَاوْيَانَا حَتَّى فْ لَكْدَارْ
شْملْنَا وَاحَد و مْفَرْقانَا شَلّا فْكَارْ
شِ يْغَرّب شِ يْشَرَقْ ؤ يَا حَسرَة جَارْ
4 – رؤيا متعددة :
لا تقفُ بوصلة الرصد الزجلية في هذا الديوان عند رؤية الموضوع ، بل
تتجاوزها إلى رؤيا الموضوع . و هي في عمقها بوصلة
تشتغل على رصد المعنى في تجلياته الممكنة و كأنني بالشاعريْن يسكنهما
إحساسٌ بالغيرة على الماحول و كأنهما مسؤولان عنه في رسالية المثقف العضوي المنخرط
، لا في عزلة المثقف العاجي المذعن . و من هذه التجليات المؤسسة لتعددية الرؤيا
بين أغراض ذاتية و أخرى موضوعية نذكر على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، لأن
المقام هنا مقام إضاءات لا مقام مقاربات :
- الإشادة بالهوية عبر مقولة المكان و تحديدا عبر
مقولة المدينة الموسومة في الديوان بسمات الانتماء المنفتح .
- ذمّ الدهر و الفساد و تغوّل الشر في حكمة بانية
من جهة و في سخرية فنية واخزة من جهة ثانية
- الحث على الخير و الفضائل و السلوك الحسن . و في
هذا المنبر رام الزجالان تجنب التقليد و التكرار و الشبه في الدعوة الى المكارم .
و من حسنات طرحهما أنهما مجّدا صلاة الفجر التي قلّما انتبه لقيمتها الشعراء .
- الحرص على تكريس قيم الاسرة و دورها في الحفاظ
على النسيج الاجتماعي السليم . من ذلك نذكر زجلية ( لالّة عْنايتي )
- موضوعة العشق حاضرة لكن في لبوس الوجد النقي و
الراقي و الموسوم في تراثنا العربي بالغزل العذري . و منه يشكل الزجالان منبرا
للبوح و اطِّراح لواعج الغرام في لهجة زجلية تتغلّف في الصياغة الملحونية الرقيقة
و الشفافة . أنظر مثلا قصيدتي الشاعرين ( الفايْقة بكري و
مرسول الكلمة )
- استحضار البعد الإقليمي في الزجل المغربي عبر
التغني بقضايا فلسطين و القدس .
- الزجل في عرف الشاعرية بوصلة تلتقط الماحول و
تستيره و تسجل نتوءاته و تطرحها لميزان النقد و النقد الساخر في اطار معالجة
القضايا عبر وسائط الكلمة الإدهاشية ... زجلية ( السارحة نموذجا )
- ناهيكَ عن تيمات أخرى تتعدد بتعدد سياقات الطرح
و سياقات انكواء الشاعرية في غير عزلة بإكراهات الماحول و شروطه القاهرة .
و في هذا الانفتاح الزجلي بواسطة اللهجة الملحية ينبثق مشروع الشاعرية
عبدالله الهواري و سعيد فكاكة حاملا أداةَ الحرف المحلّق و الكلمة الحرة الخارجين
من بؤر الذوات الواعية بشرط الحكمة الشعرية و هي تصف الموضوع في غير سطحية ، و
تتعامل معه من باب الشِّعرِيّة في توهّجها المطلوب و التي تستحضر المتلقي في
عنفوان التواصل الجمالي البعيد عن دغدغة الوجدان الشعبي ، و القريب جدا من محاورة
هذا الوجدان في ذكائه المتحول و الحركي .
5 – فنّ الكتابَة الزجلية :
نختم الإضاءة بهذا المحور الذي أعتبره تنظيرا في غير تنظير لمسألة الكتابة
الزجلية لدى الشاعرين معاً . و هما ، أي الزجاليْن ، يعتبران الزجل معاناة لا
ترفاً فنيا يستجدي المتلقي في عتبات الإمتاع و المؤانسة . و خير دليل على ذلك
انتشار المعجم اللهجي السائر في هذا الاتجاه
( نواح لحروف – زنّد لفاخر – حب القلم و الورقة – نجبر كسر لقصيدة – ما
يهمني الا كان سومو غالي ، أي الحرف – طرف مني خارج من الجوف ... دْمُوعْ الضَّادْ حارّة
تَقْطُرْ - نَازْلَة سْخُونَة على الخْدُودْ )
كما يعتبران الكتابة خروجا فروسيا ينبثق من إيمان الزجاليْن بأن الابداع
مغامرة على مطية وعرة و صهوة جموح . و في هذا الإطار نجدهما يربطان فن الزجل
بمفهوم السربة في نتوهّجها المغربي الشعبي : ( سَرَجْ عَودْ القْصِيدَة يَتْبورَدْ
حْروفْ - كِيفْ السّرْبَة كَبَّة جَايَة قْبالِي - رَاكْب على عَوْدِي ونْشَالْي - مْهَاجْرْ
نْبَرِيْ عَلْ الحْرُوفْ ...
و يعتبر الزجل في تصورهم مادة فنية زئبقية تتملص عن القبض ، و لا تستشير
صاحبها في الحضور و تتمنع كما تشاء و تفرض أزمنتها الخاصة ( أوْقَاتْها مَاهيَ
وَقْت عَادِيَة مَاهِيَ عِيدْ - لَاهِيَ ضَحْوَية ولَا سَرْوِية وَلَا سْحُورْ
) و قد ينساب أذا ما كان الزجال ماكرا يعرف كيف يستدعي الخيال ( يسْرَحْ خْيالِي
يَخْتارْ النْظَمْ - الحَرفْ يْغَازَلْنِي لِيَا يَنْسَابْ )
-
الختم :
نكتفي بهذا القدر من الإضاءة و نحن لا نجزم في النتائج و لا نحسم ، إن هي
إلا محطات قاربنا فيها الديوان من أجل قارئ مستعجل يروم الاطلاع تمهيدا للاستمتاع
الفكري المتريث . و الديوان في كله و جله مشروع فني بحدين : حد المشترك الفني الذي
نجح فيه الشاعران أيما نجاح و هما يبصمان على الوجدان الجمعي ببصمة تكاد تتجانس و
تتناغم دون أن تذيب شاعرا في الآخر ... ثم بصمة الذات الشاعرة المفردة و المتفردة
بطرحها و التي تبدو للقارئ المتسرع أنها اندمجت حدّ الامّحاء في الشريك . و هذا
تصور متسرع و خاطئ لأن الذات المتكلمة هنا و هناك حافظت في لا وعيها على خصوصية
الصوغ الزجلي لكل من الشاعرين . و لو أنهما اتفقا في وعي البناء لا في وعي الشعور
و الإحساس و الصوغ اللهجي .
و يبقى ديوان ( جوج حروف ) تجربة زجلية تضيف الى الساحة الثقافية ضوءا
جديدا في الابداع اللهجي بما يمثله من أصالة رودانية تتفتّق فيها عبقرية القول عن
فنٍّ مسؤول و ناضج و واعد . و بما تمثله على مستوى العمل الفني المشترك الذي يطرح
أكثر من صعوبة لأن الشاعر فيه لا يخلو من قيدٍ حريري يلتزم فيه بشروط الجماعة
الثنائية و لا يكاد يتملص منها حتى يعود لسلطانها . و المبهر في هذا الديوان أن
الزجاليْن عرفا كيف يطوعان سلطان المشترك داخل بؤرة زجلية لهجية ذكية استطاعت أن
تقول دون أن تتكلف في القول ، و دون أن تقتل الطبع على مقاصل التطبع و التصنيع
الزجلي .
*1 - حديث حسن روي موصولا ومرسلا، ورواية الموصول إسنادها جيد .
أخرجه أبو داود والنسائي وابن
ماجه باختلاف يسير، وأحمد بنحوه.
*2 – رواه أبو داود و أحمد و صححه الألباني .