الأحد، 13 نوفمبر 2022

رضا مريني يخترم الزمن في الساعة الخامسة و العشرين

 



رضا مريني يخترم الزمن في الساعة الخامسة و العشرين

==
نورالدين حنيف ( أبوشامة )
==
سأشتغل على قصيدة للمبدع رضى مريني ، عَنْونها صاحبُها بعبارة خزّانة دلالياً ، و بحمولات قوية مختزلة في مركب إسمي يعجن التعبير في مزيج اللغة و الرقم و العجمية . و العنوان هو (دولوريس و قطار الساعة 25 ) . لتنحسر الدهشة في هذه العتبة عن مقولات الكينونة و الزمان و المكان .
1 - في الصوغ الفنّي :
القصيدة في صوغها الفني جاءت عبارة عن مقاطع قصيرة ، و كل مقطع يتناسل عن مقطع بحيث لا تكاد ترى خلالا بينها . إنها مشدودة إلى بعضها بذكاء الصوغ الشعري البعيد عن معانقة التكرار الجمالي ، و الذي يعتبره الشاعر درجة ثانية في شعرية القول بعد ذكاء التناسل الشعري .
و التناسل الشعري هنا مبني بقصدية دلالية مدهشة تستثمر آخر كلمة في المقطع لتنتج منها دلالة ثانية في المقطع الثاني ، و تستثمر الكلمة الأخيرة في المقطع الثالث لتنتج منها دلالة ثالثة في المقطع الثالث و هكذا في تناغم إيقاعي أو في إيقاع تناغمي يتسم بقوة الصوغ و يفر من ارتجالية المعنى و المبنى . و إن الشاعر بذلك يقحم المتلقي في عملية البناء و يستدرجه في التفكير بمعيةٍ جمعية تتكهن بسيرورة و صيرورة المحكي الشعري داخل محطة القطار .
و إن المتتبع لعملية التناسل سينبهر بالحمولة المعجمية الموغلة في الاختلاف و التنوع و التشعب . و ندرج هذا المعجم الخاص بين قوسين حتى يتمكن القارئ من ملامسة شعرية التناسل عند الشاعر رضى مريني الراغب في الصمت : ( المحطة ⇦ القطار ⇦ الحلم ⇦ اللامرئي ⇦ الخيال ⇦ الساعة ⇦ المطر ⇦ السماء ⇦ السكة الحديدية ⇦ الانتظار ⇦ العد العكسي ⇦ دولوريس ⇦ الحمامة ⇦ الرصيف ⇦ الطريق ⇦ الأثر ) و هنا يتوقف التناسل و التوالد ليعلن الشاعر عن قرار شعرية الكينونة داخل المكان و الزمان .
و يأتي المقطع الأخير ليكسر تجانس عملية التوليد الدلالي و يكسر معها انتظارات القارئ و هو يسقط في فخ ترقب تكرار المشهد . إلا أن الشاعر أبى إلا أن يتحول عن انسيابية التناسل الشعري إلى شعرية الدفقة الدلالية الأخيرة المختلفة في بنائها عمّا سبق . و هو المشهد الذي يسجل قمّة الإدهاش في سفر التجلي الذي ينسج ذاته في محاريب الحرف و الكلمة و هما المقولتان الناقصتان في مفارقة الحضور و الغياب و المكتملتان في المشترك القائم في شرط واحد هو شرط المعية ( مع ) و الّتي أسميها ( الكينونة الممتازة ) .
2 - هندسة البياض :
يرتّب الشاعر رضى مريني بصرَ القارئ و ذهنه داخل هندسة البياض بذكاء نوعي ، بحيث يسيّج بصره داخل رسمٍ كِتابيّ يطرح السطر الأول في مفردة و يليه سطر شعري في جملة إسمية أو فعلية واحدة لا غير حتى آخر القصيدة حيث تختفي هذه الهندسة و يتحول القصيد إلى انسياب شعري في أربعة أسطر شعرية مكسرةً الإيقاع السابق .
معنى ذلك أن الشاعر لا يتقيد بحدود المساحة البيضاء التقليدية التي تحدّ من حرية السواد و الحبر . و بالتالي تحدّ من قوة التدفّق الشعري لديه . إن رضى مريني شاعر معاصر يهمه أن يبني قصيده وفق تصور بصري يمتد إلى دواخل المتلقي ليحدث بعض الخلخلة في نمطية استقباله لمفهوم الشعر على مستوى استثمار مساحة البياض على الأقل . و هو اختيار من الشاعر يحدد فيه مفهومه للبياض و السواد باعتبارهما جدلاً إبداعياً لا يُسيَّج في رؤية واحدة و أوحد . ( الشاعر في اختياره لهذه المقاييس لا يصدر عن تفضيل عنصر على آخر، وإنما تتداخل في الاختبار الذاتي مجموع البنيات الجزئية التي يحكم وجودها ترابط جدلي وينتهي البيت عندما يلامسه البياض أو عندما يوقفه البياض فيحد من حريته في التدفق ) *1
ينزع الشاعر رضى مريني بالكتابة ( الڭرافيك ) منزعا ثنائيا يقوم على بنية تشعّب المقولتين ثم تجانسهما : الكلمة ثم السطر في توارد يتمظهر خمسة عشرة مرّة و لا ينحسر إلا في المقطع السادس عشر ، وعياً منه بأن الكتابة عنصر فني جمالي لا ينفصل عن عمق الذات و هي تتفاعل في الصوغ الدلالي و النفسي للغة . حتى لا مسافة بين المحتوَى و المُحتوِي ، بين المادة و الوعاء . قال ابن خلدون ( و اعلم أن الخط بيان عن القول و الكلام ، كما أن القول و الكلام بيان عما في النفس و الضمير من المعاني ، فلابد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة ) *2
و هذا النزوع من الشاعر لا يروم به تسجيل الاختلاف عن الرسم العمودي ، بدعوى الاختلاف فقط ، و إنما هو صيرورة تمتد من قرار الكتابة الشعرية في قلب النثيرة لا في قلب القصيدة الخليلية ، و من ثمّة كان الأمر أنطولوجيا أكثر منه شكليا يقيم في تخوم الـ ( الڭرافيك ) في بلاغة الزخرفة و استدعاء بصر المتلقي خارج بداهة القديم . إنه التماهي بين الذات المنفعلة و الذات الراسمة ، في قناعة تصورية تكسر تراتبية الفضاء النصي و حدوده التاريخية و هيمنته الكاسحة . و من هنا تداعى في الرسم موضوع النبر ، فنحن عندما نقرأ السطر المختزل في كلمة واحدة ، نجلو صواتةً بالغة في التقصّي الدلالة البعيدة ، و لنضرب على ذلك مثال ثلاثة مقاطع :
المحطة ..
تنتظر حلول قطار س25 .
القطار ..
عابر سبيل ساحر و حالم .
الحلم ..
مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية .
فالنبر على مفردة ( المحطة ) مثلا ينزل بحمولتيه الصوتية و الدلالية في سؤال المتلقي عن هذه المحطة و بالتالي تتداعي في الذهن تمثلاته عن المكان و امتداده في وجدانه سواء على مستوى شكل المكان أو عناصره أو حركيته أو سكونه أو غير ذلك من تداعيات المكان الممكنة بسياق القصيد . و كذا ينسحب القول على نبر ألفاظ القطار و الحلم و غيرها من مقاطع النص المفردة .
3 - شعرية الكينونة :
هي شعرية تمتح قوتها من قدرة الشاعر ( ر م ) على حشد ثلاثة أقانيم في متن العنوان ثم تحليلها داخل المتن الشعري في مكر أدبي مثير جمالياً و مستفز دلاليا . و نقصد بذلك :
• الإنسان : دولوريس
• المكان : القطار
• الزمان : الساعة 25
تتبدى هذه المقولة واضحة في الاسم العلمي العجمي ( دولوريس ) و هو علامة سيميائية مستفزة تطرح علينا أكثر من سؤال ، على الأقل في تصورنا للشاعر و هو يزورّ عن تراثيات ( هند و بثية و فاطمة و غيرهنّ ... ) ممّن ملأْنَ قصائد الشعراء وكما ملأن آذاننا و وجداننا .
و اللافت للنظر في هذه العلامة ليس العجمية فحسب ، و إن دلّت في عرف الشاعر و في عرفِ تأويلنا على اختيار المتكلم اسماً لا يرمي بنا في شوفينية القول العربي الرابض دائما في التغنّي بالاسم الأنثوي العربي ، و ذلك إيمانا من الشاعر بكونية التجربة الإنسانية في عمليات الانتظار أو في واقعة الانتظار . إنها النفس البشرية مقروءةً في صميمها الكوني الذي لا يتبدل من دولوريس إلى فاطمة .
و أنما الأمر متعلق في بعض تأويلنا بالاسم العجمي الموسوم بالإشارة إلى متعيّن غائب ، ذلك أن اسم دولوريس مشتق إيثيمولوجياً من الأصل اللاتيني ( dolor ) و الدال على الألم . 3*
من هنا دقّة الاختيار في الاسم الشاعري و الشعري الرامي بالقارئ في أتون القراءة الذكية و الممتطية صهوة التأويل لا مطايا البحث عن المعنى القريب و المستسلم لأول تناول .
و المسألة تتيح لنا شيئاً من فائض المعنى و نحن نقرأ التوظيف داخل سيمياء التركيب بين الاسم و فعل الانتظار في المكان . إنها الكينونة المتميزة لا في الحضور الإنساني المكتظ ، و إنما في الحضور الفنّي القارئ للذات البشرية في كينونةٍ شعرية تتسم بالعمار التأملي إن لم نقل الفلسفي ، حيث الماهيةُ قضيةٌ ، و حيث الوجود سؤال .
و الأمر لا يتعلق باسم مفرد هو دولوريس داخل مكان عابر هو المحطة في زمن متلاشٍ في السديم هو سحابة ساعة أو أقل. الأمر أكبر من ذلك ، و أعمق ، و أقوى من تحييزه داخل التشيؤ . و خاصّةً عندما ندرك استعمال الشاعر للساعة الخامسة و العشرين المترنحة خارج إمكان القبض . من هنا أيضاً شرط الكينونة في قراءة هذه القصيدة السائلة .
و في تشعب القصيدة بين مقولة المكان و الزمان و الإنسان تشعبت كثيرٌ من العناصر تتداعى فيها معانٍ مولّدة في صوغٍ شعري لا يبذخ في الفكرة و إنما يرسم الفكرة فلسفياً لتقول القصيدة شيئا في هذه الكينونة الظاهر بسطها و الباطنِ عمقها . إذ في كل عنصر يتبدى الشعرُ مسافراً لا في تحديد ماهية العنصر بقدر ما هو انزياحٌ في شعرنة العنصر . فتتحول المحطة إلى كائن حيّ يمارس فعل الانتظار ، و القطار إلى عابر سبيل ، و الحلم إلى مسافر ، و اللامرئي إلى خيال ، و الخيال إلى إيادٍ تتلاعب برقاص الساعة ... و هكذا في توليدية عجيبة تؤثّت ذهن المتلقي و تدفع بمخياله إلى تخوم الذكاء في استنتاج الآتي و الممكن و المحتمل .
و هو التشعب المنتهي بفكرة الانسجام على مستوى الخطاب الشعري الذي تتساءل فيه الكينونة أكثر من أي عنصر آخر . و فيه تبدو دولوريس حمامةً تميس على الرصيف و تغفو على كرسي الانتظار لتمسك بتلابيب القصيدة داخل فعل الانتظار الذي أعتبره صلب القصيد مشفوعاً برؤية فنية و وجودية للزمن خارج مسألة التحقيب ، و نستفيد ذلك من اختيار الساعة الخامسة و العشرين في اخترام واضح لمفهوم الزمن . فالساعة الخامسة و العشرون ساعة مستحيلة في عرف إدراكنا البسيط و لكنها في عرف الشاعر ممكنة سيميائياً لأن الاستحضار هنا غير فيزيائي لا يقاس بدلالة مقدار حركة الموجودات داخل المحطة \ المكان و إنما بمقدار وجودها داخل الزمان النفسي كمطلق كوني لامتناه .
و فيه اعتمد الشاعر رضى مريني توظيف الزمان باعتباره مقولة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني و انفعالي يحتويه الشعور واللاشعور ، كما وسمه في دواخل دولوريس الممتدة إلى روحها و الهاربة من تخوم إحساسها البسيط بالوقت المتحيّز داخل المحطة . و بتعبير آخر فإن الشاعر اختار الزمن الممتلئ من منظور برجسوني ( يفسح الزمان الممتلي و العميق والمتواصل والغني ليكون مكاناً للجوهر الروحي الذي لا تستطيع فيه النفس الانفصال عن الزمان ) 4*
4 – ختمٌ :
ينتهي الدفق الدلالي في هذه القصيدة - التي لم نوفيها حقها في التحليل نظرا لعبقرية عمقها – بقرار شعري يعيد ترتيب تشعب العناصر الأولى المنسابة في إيقاع تناسلي عجيب ، و هو قرار شعري يتناسل من مفردة الطريق بمنطق السبب و النتيجة مشيرا إلى تداعٍ انزياحي قوي هة ( الأثر ) الناجم عن مقولة الطريق ، و هو الأثر المتحول إلى إمكان الاستمرار لتخرج معاناة الألم و الانتظار من الحالة الخاصة إلى الحالة الكونية ، فيتحول الأثر الناجمُ عن السَّفر سِفرا للتجلّي . و تتحول الكسرة من حركة مورفولوجية إلى حركة دلالية تحدث شرخا بين المعيش انتظاراً إلى المعيش كينونةً و وجودا . و السفر بكسر السين متعلق في استيعاب الشاعر بالتجلي . ذلك أن رؤيته الشعرية لم ترد أن تلقي بالانتظار في نهاية البداهة حيث يتحول المنتظر إلى استقرار في عربة من عربات القطار لتنتهي الرحلة من حيث بدأت ... و إنما هي الرحلة الوجودية في قلب المعاناة الإنسانية الكونية الموسومة بالجوهر بقرينة لفظية هي الساعة الخامسة و العشرون التي رمى بها الشاعر في كتاب التجلي القائم على يناع الحروف و الكلمات .
==
*1 بنيس محمد، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ص10
*2 عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، دار ابن الجوز، القاهرة، مصر ، ط1 ،2010 ،ص351
4* جاستون باشلار ، تكوين العقل العلمي ، ترجمة خليل احمد خليل ، الممؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ، ط 2 ، ص16
==
نورالدين حنيف
==
أنظر نص القصيدة :
" دولوريس " و قطار الساعة 25
==
المحطة ..
تنتظر حلول قطار س25 .
القطار ..
عابر سبيل ساحر و حالم .
الحلم ..
مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية .
اللامرئي ..
يرى مخلّفات الخيال .
الخيال ..
أيادي تتلاعب برقّاص السّاعة .
السّاعة ..
تعلن رحيل المطر .
المطر ..
يراقب وِجْهة الريح في السماء .
السماء ..
تعكس ظمأ حجارة السكة الحديدية .
السكة الحديدية ..
تآكل صُلْبُها بفعل الانتظار .
الانتظار ..
ينتظر على إيقاع العدّ العكسي .
العدّ العكسي ..
يتلهّى في انتظار إطلالة " دولوريس " .
" دولوريس " ..
تميس على الرصيف كحمامة .
الحمامة ..
تغفو فوق آخر كراسي الرصيف .
الرصيف ..
مفترق طُرُق .
الطريق ..
اِقتفاء أثر .
الأثر ..
سِفر التجلّي ..
حيث زُرعتْ حروف ..
أيْنَعتْ كلمات ..
على إيقاع شِعريّة فنّ الغياب ..
عن الحضور المشترك مع .
==
رضا مريني

الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

مفارقة - نورالدين حنيف

 



مفارقة
...
يتحدّثون عن أرسطو و عن فيتاغورس و عن هوميروس الذين عاشوا و ماتوا قبل الميلاد . و يتحدثون عن آثارهم بكل يقين و دقة و ارتياح . و كأنهم عاشوا بين ظهرانينا ، لا يأتي من قال و حلل و هلّل لمقولاتهم باطلٌ من بين يديْهِ أو من خلفه . لكننا عندما نتحدث عن أحاديث نبينا الأصدق ( صلى الله عليه و سلم ) في زمن لا يتجاوز الأربعة عشر قرنا ، و هو زمن قصير جدّا في أزمنة الحفريات الإناسية و الأركيولوجية المعرفية ، و عن علمائنا الأبرار الذين رسموا أدقّ منهج لمعرفة الرجال و أنسابهم و ألقابهم و مواطن صدقهم و كذبهم في ما يسمى ب " علم الجرح و التعديل " و هو أصح علم صنعته أمة لتراقب ذاتها مراقبة علمية دقيقة و صارمة مثل حد سيف ، ينبري لنا كل من هبّ و دبّ من عجم و عرب ، مدفوعا بأجنداتٍ غربية ترى في تراثنا مواطن قوّتنا و ترغب مسعورةً في هدم كل صروحنا ، يشككون و يرجفون و يصنعون الشبهات في أردية العلم و الحرية و التقدمية و العقلانية ، فيطعنون في عقلنا الماضوي لمسح عقلنا الحاضر و مسخه و دفعه إلى التبعية الاستلابية القائلة بقولهم و المؤتمرة بأمرهم .
لا أريد أن أسمي بعض المشّائين لهذه الأجندات حتى لا أسهم في الإعلام و الشهرة لهم و هم لا يستحقون ذلك ، و قد كفاهم ما خططوا من تناقض في أطروحاتهم للرد عليهم ، فجاء هدمهم من داخلهم ، عبر منهجهم الخاوي من العلمية و العامر بالتضارب في المعلومات و الأدلة و البراهين ، بما يسمح للمبتدئين في العلم بالكشف اليسير عن عوراتهم .
خلاصة القول إن هناك منّا و فينا من يستصغر هويتنا و حقيقتنا ، و عوض أن يسلط طاقته للنفح و الدفع عن حضارتنا ، يسيل لعابا و انبهارا ببريق حضارتهم فيتحول إلى شيطان صغير في كف عفريت مارد يكره لنا أي مشيئة .
...

نون حاء 

الضغط النّاعم - نورالدين حنيف

 

 


الضغط النّاعم

نورالدين حنيف – كاتب من المغرب

==

في كتابه ( فن صناعة التكتلات السياسية  ) يُعرّف الباحث السياسي ( ليونيل زيتر ) اللوبي بأنه ( حملة ضغط منظمة ومتعددة الأشكال والأدوات، تسعى إلى التأثير في الحكومات ومؤسساتها التنفيذية، والحكومات المحلية، والمؤسسات التشريعية، لفرض أجندات معينة على السياسات العامة، بأساليب الإقناع السياسي ) * 1

يتدثّر هذا التأثير تحت غطاء مجموعة من التسميات أبرزها تسمية اللوبي الذي كان قبل انتشار شروط موضوعية ترتبط بالحداثة و التقانة و سرعة التواصل ، مجرد تكتُّم سرّي ، ثم أصبح مفهوما متداولاً في الأوساط الثقافية و كذا في نسغ المجتمعات و في أوصالِها .

ولقد فتَحَت التقنياتُ الحديثة ، عبر انتشار وسائط الإعلام والاتصال و غيرها ، شهيةَ مفهوم اللوبي كاملةً ، تدعمه في ذلك الآلة الإعلامية ، كي يقرأ السياسة التقليدية من زاويته الخاصة المبنية على التضليل و الكذب لإفساد المشهد السياسي العالمي برمّته . و هو الأمر الذي ينبغي أن ننظر إليه في عمقه ، إذ لا تكتفي هذه الآلة بتحويل القيم و مسخها و ضرب القناعات المؤمنة بها، بل تذهب إلى أبعد من ذلك ، حيث تتحكم في بناء الأجندات الخاصة بالجماعات و الأفراد الذين يتهافتون على الفضاءات الإلكترونية تهافت الفراش على الضوء ، فيما هم يزْورّونَ عن المشاهد الواقعية و التي تخصّهم في حميميتهم بحكم التمويهات الخطيرة التي تمارسُها جماعاتُ الظل . اللهمّ بعض المثقفين الذين استوعبوا اللعبة ، فمارسوا من جهتهم بعضاً من المسؤولية الحضارية ، عبر صرخاتهم الموزَّعة بين النضج العلمي و الانطباع الوجداني ، و التي لا تجد الآذان المصغية الكافية كي يشكلوا معاً قوة ضاغطة مناقضة ، قادرة على تغيير وجه النهر الرّتيب .

إن من سمات هذا التضليل و التغليط ، سمةُ عجن الصواب بالخطأ و الحقيقي بالمزيف ، والصادق بالكاذب ، و الفعلي بالوهمي ، إلى درجة التمييع الموسوم بالقدرة الخارقة على تركيم طبقاتٍ سميكة من التعمية ، تغشى الرؤية و تسيطر عليها و توجهها إلى أهداف تلكم الآلة السائرة في آخر المطاف إلى صناعة الكائن المستهلك و العاجز عن التمييز بين ما هو صحيح و ما هو فاسد . و هنا تحضرني أمثلة تتصل بوضعنا العربي الخاص ، حيث تسمح هذه الفضاءات بتمرير حالاتٍ من الاستعمال اللغوي البعيد كل البعد عن أصالة العربية و عِلميتها و أدبيتها ، بغايةِ مسخ حضورها في الذات العربية في تجلّيها المفرد و الجمعي و السير بها في اتجاه بناء مشروعِ لغةٍ عربية ثانية تتسم في نظر هذه الآلة ، بالمرونة ، التي نسميها نحن مسخاً حضارياً ، من منظورنا الغيور غيرة علمية واعية على هويتنا العربية الإسلامية ، لا غيرةً مجانية مندفعة .

كان هذا مثالاً ، غيضاً من فيضٍ ، أو شجرةً تخفي غابة . و ما خَفِيَ كانَ مُحرّكاً لوعينا بضرورةِ الحديث عن تغير شروط المشهد السياسي داخل هذه المنظومة الحداثية الطافحة بالمتغيرات الجذرية ، في قراءة للحالِ المكذوبةِ و الكاذِبَة على واقعنا العربي و المغربي على حدّ سواء . و هي الحالُ التي أفرزتْ كثيرا من التقليعات السياسية القابضة على محور الكذب باعتباره الوجه التطبيقي المناسب لروح العصر المخاتِلَة و المبتعدة في إصرار غريب عن كل ما يقرّب إلى القيم الإنسانية الحاملة لحقيقة ( الله ) المطلقة ، و الحاملة تباعاً للمقولات الرسالية المحمدية المتفرّدة في صناعة الحضارة . من هنا ندرك عمق و خطورة هذا التوجه العالمي المبني وفق تصوّر عدائي لكلّ ما هو شرقي موسوم بالمحمّديّة النقية و التقيّة و الراقية . و هو تصوّرٌ عدائيٌّ يتلبّسُ داخل أقنعة متعددة ، بين العلمي و الفلسفي و الفني و الأدبي و الفلكلوري و غير ذلك من القنوات الحاملة لإمكانية الضغط الناعم على الأفراد و الجماعات و توجيهها التوجيه المرغوب فيه .

إن عمليات الضغط  لا تنسج خيوطها القاهرة بيد من حديد إلا في الحالات المستعصية ، و حتى هذه الحالات يسبقها إصرار ماكر على تفعيل السياسة الدولية انطلاقاً من التمرير النّاعم للكذب التاريخي ، تبريراً يدعم الفعل السياسي غير المشرعن . و أبرز مثال لذلك هو تسويغ الدخول الغربي إلى بلاد العراق عام 2003 تحت ذريعة امتلاك هذا البلد لأسلحة الدمار الشامل ، مما أقنع الرأي الدولي ، و ضمنه الإقليمي و المحلّي العربييْن  ، بشرعية هذا الدخول و قِيَمه الإيجابية لأنه يندرج في إطار المصلحة الدولية العامّة ، إن لم تكن هي المصلحة الكونية ، والتي تحتاج إلى وصيّ عليها ، فلا يجد المقام الكوني إلا هذا الغرب السيّد و المتسيّد ممثِّلاً  مناسبا لحمل هذا الثقل الحضاري .

لا تعلن هذه الوصاية عن ذاتها بشكل مباشر ، لأنها – أصلا – مرفوضة في برّانيةِ خطاب الجماعات الضاغطة والمُسوّقة لمنظومة القيم التي لا تني هذه الجماعات لحظة واحدة في تكريسها و السعي الدؤوب لنشرها على أوسع نطاق . و تعلن عن ذاتها في أشكال أخرى تتسرب في نسغ العلاقات الدولية بشكل مُلمّع يعانق المنطق السليم و يسري في أوصال المجتمعات سريان الحاجة الحتمية .

...

*1Zetter, L. Lobbying - The Art of Political Persuasion, (Harriman House LTD, Petersfield-UK, 2008). p. 3

==

 

الثلاثاء، 10 مايو 2022

الشاعرة وفاء أم حمزة ترسم خارطة للفجر - الجزء الأول من القراءة






 الشاعرة وفاء أم حمزة ترسم خارطة للفجر

الجزء الأول من القراءة
...
تقترفُ الشاعرة الفاضلة ( وفاء أم حمزة ) جريرة الجمال في نسقِ تركيبي يستمد مرجعيته القولية من أنساق ذهنية مختلفة تتوحّد في عشق الطبيعة .
و هو عشق لارومانسي يُهرّب قضية الذات و الموضوع إلى سديم الغاب بأعشاشه و جداوله و أزهاره ... و إنما هو عشق يروم تأليف المفردات المتشعبة و توليفها في انسجام الروح عبر بوّابة الكائنات الطبيعية المتناثرة في وعي الشاعرة قبل أن تتناثر في بيئة هذه الكائنات المتشيئة .
و لنبدأ من البداية ، نجد الشاعرة تستفتح كتابها الرائي بالحديث عن اليد الممدودة إلى الفجر تستجدي منه الحناء . و رب قارئ سيقف على المعنى و يجتني منه دلالةً أو اثنتيْنِ ، ثم يظلم الانزياح في تناسله الغريب ... إن اختيار الفجر كمصدر للحناء هو اختيار ماكر ، يطلب البركة و النور و الطهر و العطر ... و قبل هذا و ذا يطلب البداية . و ما أدراك ما البداية .
و الشاعرة على وعيٍ ذكي بشرط البداية . و كأنها تقول فيما تقول : أعطوني البداية كي أعجن تاريخي من جديد ، و أوزع الأدوار على جوارحي ، و لها أن تختار مقاعِدها بالشكل المناسب في غير وصايةٍ منّي عليها ، كي تقدّم أجمل ما فيها من إدهاش الحياة . و القرينة المثبتة لذلك أن السياق أردف الكلام بعبارة دالّة ، توظّف مقولة الباب و المفتاح ( أمعن في فتح الباب ) ... و هما مؤشران لسنيان يدلان سيميائيا على البداية . فكل فضاء نبدؤه بالباب ، و نبدأ مشروع الباب بالمفتاح . و الشاعرة هنا في لاشعورها ترسم خريطة الحناء داخل الاختلاف المتدرج انطلاقا من مقولة الفجر و انتهاء بمقولة الباب ، لتحقق انسجام اللحظة الممكنة في التجلّي . و النتيجةُ أن الشاعرة ترمي بنا في عوالم مفتوحة بارادتها عبر مدخل الحناء و الفجر ... فماذا نجد في هذه العوالم ؟ و ماذا نجد خلف الباب السيميائي ؟
نجد جوقةً من العاشقين تحفهم كائناتٌ طبيعية مختلفة : ( الأجنحة – الرمل – البحر – الغيمة – القطن – الظل – النورسة – الصباحات – القرنفلات – الشمس – الفاكهة – الفراشات – الزهر – النرجس – زهر الرمان – العصافير – السنابل ... ) و حيث تهيمن هذه الكائنات الطبيعية و مثيلاتها على مساحة النص ، فلا داعي لتتبعها تتبعا حصريا ، و نكتفي بالإشارة ، فهي أغنى من العبارة في سياقات متعددة .
ما معنى أن تكون الطبيعة حاضرة بشكل لافت و صريح و ماكر ؟ و هل هو حضور اعتباطي أم قصدي ؟ و هل التركيب المثقل بهذا الحضور تركيب يقفز خارج المعنى ليمارس على القارئ شرط التلقي الجمالي ؟ أم أنه تركيب يكتفي بذاته في اتجاه برناسي يعزف لتستمتع الجوارح فقط في تغييب كلّي للجمهور ؟ و هل القصيدة غائية ترمي بشررها على محيا الأفق الممكن أم هي ممكنة في ذاتها تصف تشظّيها في بكائية قريبة تدغدغ المسام السطحية من وعي القارئ ؟ و هل تستثمر الشاعرة بلاغة القول لتحيا بها أم تستثمرها لتبلّغنا رسائل الإمتاع العابرة ؟ ...
أسئلة كثيرة تتناسل ، و تنولد معها رغبة أكيدة في ممارسة التأويل خارج سلطان الذات المتكلمة ، لنتحول إلى قرّاء منتجين ، لا إلى آلة كسولة بتعبير أمبرتو إيكو ، تستهلك و تمرّ عابرة .
لا يسعنا التتبع الدقيق لانزياحات القصيدة ، و سنكتفي بقراءة مجموعة منها في أفق التأويل الممكن ، ممسكين بالمفردة داخل السياق و داخل الأنساق :
- أعدّ ضحكات الرّمل ... انزياح الاستحالة
- في ذاكرة القطن ... انزياح النقاء الماكر
- انزلق في حلمي الغجري ... انزياح الإدهاش
- أمدّ ظلّي ... انزياح الرفض
- أرتّب أسرَّةَ الاحتمال ... انزياح الترقّب و التحدّي
- عكازة الريح ... انزياح يرفض السكون
و مثل هذا و ذاك كثير و مختلف و متشعب يسير في اتجاه انسجام نصّي يوحّد الرؤيا داخل التعدد . و من هنا قرار الشاعرة أن ترسم العالم الخاص بها انطلاقا من مادّتين هما الإنسان و الطبيعة . و هما معاً مشروطان بسياقين ، سياق الجمال و سياق الجلال . كل ذلك في توجّه شعري يكاد يقطع مع تجربة الألم المنسوخة في ديوان الشاعرة الزجلي ، و كأنها تجنّد كائنات الجمال و الجلال لتقطع مع هذه التجربة الماضوية بكل ما فيها من تعب جسدي و روحي .
لستُ أقرأ الشاعرة كلّها في قصيدة واحدة ، و لست أقرأ القصيدة في جرة قلم مفردة ، و إنما رمتُ مناوشة النص في بعض إشراقاته افتتاحا لشهية الكتابة في مشروع شاعرة كبيرة في حجم الفاضلة وفاء أم حمزة .
-- نون حاء --
المتن الشعري :
حلم غجري
لحناء الفجر ،امد يدي،
أمعن في مفتاح الباب،
اتأمل جوقة العاشقين،
وأهش طيري بأغنية الأعراس.
بأصبع واحدة
أقص أجنحة التفاصيل،
أعد ضحكات الرمل،
أبحث عن فكرة،
عن بحر،
عن غيمة
تكتب عن موت المسافات،
وعن قصائد تسافر
في ذاكرة القطن.
أنا البعيدة
في قوافل الغجر التائهة،
بخطوات لا تلتقي
أفرغ رأسي،
أنزلق في حلمي الغجري،
أمد ظلي ،
تسحبني الدهشة
في رأس النورسة.
في الطريق اليّ
أحمل معي الاغنيات،
أحمل الصباحات،


قرنفلات الشمس،
تنضج الفاكهة
شبيهة بالفراشات،
يتدفق الزهر من نهر النرجس،
ينمو زهر الرمان
في عين الأبجدية.
حرة من خوفي،
أطلق عصافير لغتي،
أرتب أسرة الإحتمال،
نصوصي الخائفة،
همهمات المرايا،
ورسائل الحب .
بعيدا عن نزوة الغياب
اتحدث عن السنابل،
عن نجمة تقرأ كفي ،
عن غزالة تقضم عشب الفرح،
وعن الحب.
أيها الحب تمايل،
تحامل، تطاير،
أستعيد قصائدي من عكازة الريح ،
يرقص الندى في قلب الصبح،
تطير اليرقات والكلمات،
وانبت ألوانا في ربيع الروح.
وفاء أم حمزة ج 

الاثنين، 9 مايو 2022

حفيظة يوسفاني تجعل الأنثى تنزح من العين لا من الضلع - بقلم نورالدين حنيف

   



...

 

حفيظة يوسفاني تجعل الأنثى تنزح من العين لا من الضلع

بلا عنوان ..
بجنون مذهل ، أسرع إليك
أطوق عنق الكلام في حلقك
و دفء عينيك يتشربني .. !!
تزفرني حرارتي في هامتك
و دمانا ، أنت و أنا
تركض في شرايين البوح ... ..
كآاااه .. في مواويل ننبض
و كأنات في لحن ننساب
و بلا مقياس ، نتحدد
و نتجسد في أطول قصيدة
بلا .. بلا عنوااان .. !!
...
تكتبُ الفاضلة ( حفيظة يوسفاني ) كما لو أنها تبني أعشاشاً من حرير لطيورٍ نادرة لا تُحلّق إلا في سماوات الربيع . و من ثمّة يأتي شِعرُها دوحاتٍ من مجاز الصورة و رقيق الانزياح و كأنها تبحث عن المفردة التي تليق بمقام الهمس الشعري بحثا لا يبدو لقارئ عابر أنه يؤرّق الشاعرة و يقضّ لها مضاجع القول الجميل .
و بلا عنوان ، تُدبج الشاعرة ( ح ي ) القصيدة و كأنها تخشى على أعشاشها أن تُضبطَ بالعلامة الفاضحة لوجودها في المكان . إذ العنوان هوية أو جزء من الهوية ، و الشاعرة مازالت تنسج لشعرها خيوط الهوية و لم تكتمل في أناملها خصائص هذه الهوية ، لهذا ، فهي تُهرّب قصيدتها خارج أزمنة القبض على المعنى من طرف قارئ يستعجل المعنى . هكذا جاء العنوان مفارقا للعنوان ، في تأويلٍ شعري لمفهوم العلامة السيميائية القاضية بتربيب الكلام في مهده الأول خارج التسييج النوعي الذاهب بالقصيدة مذهب الإدهاش من خلال رفض العنوان .
و هذا الرفض النسوي للمؤشر \ العتبة هو رفض حريريٌّ يعتنق فلسفة الجنون في تجليه العارف لا في تجلّيه المَرَضي . فهو الاستهلالُ المذهل الذي سيفتح القصيدة على مصراعين أو أكثر . و هي مصاريعُ تنفتح على الآخر في دورة حياتية تُقبِل على المعنى و على اللامعنى ، و ترسم العلاقة الوجودية بين الذات المتكلمة و الذات الموضوع ، داخل لوحة تشكيلية مادّتها الكلماتُ الإدهاشية الخارجة بفضل رؤية الشاعرة من صميم القواميس الجامدة إلى حيوات السياق الحية و الدينامية القادرة على تسليم المعنى الأول إلى مقاصل القراءة الاستهلاكية .
الشاعرة ( ح ي ) لا تريد قارئا مستهلكا ، لهذا فهي تُلاعب فيه عمقه الاستقبالي كمرسل إليه يعنيه الحرف و ظلال الحرف . من هنا جاءت العبارة قوية في لطف و لطيفة في قوة . أنظر إلى قولها : أسرع إليك و أطوق عنق الكلام في حلقك ) ... فالكلام هنا لا يقف عند حدود الصوغ الانزياحي المُهرّب للكلام من عتبات المعنى إلى آفاق اللامعنى فحسب ، و إنما و أساسا هو الشعر الذي يبني المسافات المتوتّرة بين الأنا و الآخر في وعيٍ جليلٍ بالكتابة الشعرية التي تجعل من المسافة بؤرة التشكيل و الغواية و الصدح و القول . و لعل مفردة ( أسرع ) تفيد تمدّد هذه المسافة كجسد غير مرغوب فيه مادام يمارس ثقافة البعاد . لهذا كان أول ارتماء للذات المتكلمة عيناً دافئة تستقبل هذا الركض المجنون ، بحثا عن رجوعٍ تاريخي قديم يوم خرجت حواء من ضلع آدم . و الشاعرة هنا تكسّر أسطورة الرجوع لا إلى الضلع المحبوب ، و لكن إلى شيء أجمل من الضلع الذي يتيح فكرة الوجود البنيوي ، أما الرجوع إلى العين فهو الرجوع الأكبر . لأن العين أكثر حضنا من الضلع ... و لعل خطاب القرآن يفيدنا هذا التخريج السيميائي (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) ...
بعد ذلك تسترجع الشاعرة فكرة الهوية التي لا تتحدد في منظورها إلا داخل التوحد الإنساني بين ذاتٍ تتكلم بالإدهاش و بين ذاتٍ تحضر أكثر إدهاشاً من خلال توحيد الدم في تعدده ، إلى دمٍ واحد يركض و يركض حتى يتحول الركض إلى موسيقى تنساب و تتجسد في هوية القصيدة التي ترفض دائما حصار العنوان .
هكذا قرأتُ الشاعرة ( ح ي ) في عجالة سياقية تستفز القصيدة و لا تقول عنها كل شيء ... لأنها من الشعر النثير الغابر في المعنى و تأويل المعنى . و ما أدواتنا في ملامسة بعض الإشراق فيها إلا محاولة لاستيعاب حجم الوجود الإنساني الذي ترسم الشاعرة معالمه في ذكاء نوعيّ يستحق أكثر من مقاربة

بين الأزلِ و الأبد قراءة في نثيرة للشاعر علال حمداوي بقلم نورالدين حنيف

 


بين الأزلِ و الأبد

قراءة في نثيرة للشاعر علال حمداوي
بقلم نورالدين حنيف

...

امتطى الشاعر علال حمداوي الهاشمي صهوة القريض في هذا القصيد على متنٍ أنطولوجي يمكر باللغة في سيمياء التأويل . و فيه يرمي بنا الشاعر داخل لعبة اللغة و الوجود ، متأبّطاً حالةً نكرةً من حالاتٍ وجودية متعددة ، في مُساءلة عميقة ترجّ أذهاننا الكسولة و تقتلعنا من أرائك الوثارة إلى صخب الاستفزاز اللذيذ .

و حين يبدأ الشاعر علال حمداوي فإنه يبدأ من حيث الإشارةُ الماكرةُ إلى التحقيب الشعري للزمن الهيولاني ، داخل قبضة فنيةٍ ترسم للذات وجوداً محاصرا باللاحصار و مفتوحا على قسوة التأويل ، في ثنائية الأزل و الأبد ... قال الشاعر :

أنا رجل موجودٌ منذ الأزل

حتّى أنفاسي بطلاء أبدي

و حيث إن الفرق بين الأزل و الأبد هو أن الأول له نهاية و الثاني بغير نهاية فإن الشاعر هنا اختار هذا التكامل اللازمني ليرسم لنا قوة الوجود الممكنة في سيمياء فائض المعنى لا في المعنى . لأن هذا الأخير يسيّجنا داخل أقنوميْ البداية و النهاية و بالتالي يحاصر فينا ذلكم الاشرئباب الممكن في الخروج من كل أضرُبِ الشرنقات الوجودية . و هكذا يتم تحقيق الانسجام النصي بين التصور و اللغة في شعرية شاعر يعرف ما يقول و يعرف كيف يقول . و الدليل أن الأزل المرتبط بالبداية و القدم أسند له الشاعر إمكانية التاريخ ( أنا موجودٌ منذ ...)  لأن هذه ( المنذ ) تدل في معجمها على الزمن المعدود ، إشارةً ماكرة إلى بداية الإمكان البشري المصحّح لتمثلات المتلقي لمفهوم الخلق المؤطر داخل زمن الولادة و زمن الموت ...

في حين أن الشاعر أسند لمقولة اللانهاية مفهوم الأبد في انسرابه الزئبقي خارج قبضة التاريخ و التأريخ معاً . و في إتمام اللامعنى ، أي ما سميناه بفائض المعنى ، نجد الشاعر يربط بين الأبد و الأنفاس في مقابل ربطه للوجود بالقدم ... و معنى ذلك أو تأويل ذلك هو أن الشاعر يؤرّخ للروح ( الأنفاس ) خارج قبضة الحيز . و كأني بالشاعر ينتصر لإمكان الحياة الروحية الممسكة بكل المعنى على حساب الحياة الفيزيائية المتلوة في شعائر الوجود و الممسكة ببعض المعنى فقط .

يستمر الشاعر في فلسفة الوجود من رؤياه الخاصة في تحول سيميائي جديد يرتبط بممارسة الوجود داخل اليومي ، و كأن الشاعر يريد النزول بالمعنى من تعاليه إلى وجه من وجوه الدلالة التقريبية حذاء تخوم القارئ . و من ثمة يحدثنا عن تجدد نسغ الحياة في الذات كل صباح ، و هو التجدد الذي يدعو الذات إلى الشعور بالكتلة ، أي بالوجود الفيزيقي كإشارة بعيدة إلى نرجسية الموجود و  هو يقبل على ممارسة الحياة داخل المكان عبر طقوس الفرحة بالأفق و بالشمس ، بقرينة لفظية دالّة ( أتغنّى بالأصيل والغسق ) ... و هي الطقوسية الموصوفة هنا بالجسر الذي يمد بين تمثلنا لحالة الوجود كفلسفة متعالية و بين تمثلنا لهذه الحالة كممارسة . و في كلا الحالتين لا يتركنا الشاعر دون توصيفٍ يؤطر رؤيتنا المنتِجة داخل مكر المقارنة .

و سرعان ما يتدخل الشاعر ليجيب عن سؤال المقارنة في توجّه دلالي آخر يستحضر الحالة المفردة داخل الكوني ... قال الشاعر :

أبحث بين ألسن الشّعوب

عن أبجدية تحتوي مكنوني

و كأن المعنى لا يكتمل داخل رسم الحدود الجغرافية للذات داخل الحيز الذي ألقى بها تاريخيا في ممكن المكان ... و يكتمل في منظور الشاعر داخل سؤال اللغة الباحثة عن تشكل الإنسان تشكلا حقيقيا ، أو على الأقل تشكلا مغايرا . و هكذا تأتي اللغة كمؤشر على الوجود بامتياز و كحالة تستدعي اختلافا يسير في اتجاه الوحدة و التوحد . و انظروا معي كيف صاغ الشاعر علال حمداوي مكر اللغة و هي تمارس قوة حضورها ، إذ لا معنى للوجود خارج اللغة ، و لا معنى لهذه اللغة إن لم تكن محددة لمعنى الإنسان ( أبجدية تحتوي مكنوني ) .

بعد هذا الاستطراد الدلالي المرتبط بحالة الوجود داخل الكوني تأتي الوحدة اللسنية المشكلة لبؤرة المحكي الشعري هنا ... و يتعلق الأمر باستدراك الوجود الموصوف قبلاً داخل أيقونة الرجل فيما السؤال الممكن هو : هل تكتمل هذه الحالة خارج شرط الأنثى ؟

يجيبنا الشاعر :

أكفرُ  بوجود

أنثى وجدت لتحبّك دون

أن يأسرها الرّجال ...

وبرجل تكفيه نساء الكوكب

معلنا فلسفته القائلة بلا إمكان التجرد ، بدليل قسوة الصوغ الشعري في هذا المقام بالتحديد ( أكفر ) حيث كان الصوغ قبل ذلك صوغا رحيما و مستأنسا . أما في هذا السياق فتجلى لنا التحبير متوترا يرسم القناعة في دوغمائية لا تترك مجالا للتداول و للنقاش . و فيها ينفي الشاعر بيقين وجود الحب كما رسمه تاريخ الرومانسيات . فلا وجود لامرأة تحب الرجل و لا لرجل يحب المرأة ، و إنما هناك شتات وجداني و تسيب عاطفي يرسم اللامعنى في مجال الحب . و هي وجهة نظر خاصة و شديدة الخصوصية يلفها الشاعر في قالب شعري لا نناقشها البتة .

و قد نقول في تأويلاتنا ما لم يقله الشاعر ، و هذا هو مربط التأويل و مصداقيته ، و لكم أيها القراء مساحات أخرى من الفهم و فهم الفهم . و شكرا لعلال حمداوي على هذا الاستفزاز اللبق و إلى فرصة تأويلية أخرى إن شاء الله .

المتن الشعري :

حالة وجود ، نثيرة للشاعر علال حمداوي

أنا رجل موجودٌ منذ الأزل

حتّى أنفاسي بطلاء أبدي

كلّ يوم يعلنني فيه عمر جديد :

يعاودُني دبيبي كتلةَ كيانٍ ،

بجبيني المترف

ببعض الوقاحة

أشعرُ بالصّباح

ونادرا ما أنظرُ صوب الشّمس،

أتغنّى : بالأصيل والغسق

 دون تحديق يُذكر

في الأفق

أبحث بين ألسن الشّعوب

عن أبجدية تحتوي مكنوني

يتساوى عندي : النّافق بالميّت

فنحن سواسية

في تابوت الحياة

أكفرُ  بوجود

أنثى وجدت لتحبّك دون

أن يأسرها الرّجال….

وبرجل تكفيه نساء الكوكب

يمكنك فكّ ضفيرة الحياة

إذا ضفرت بلغة شاهقة المعاني

فالإغواءُ لعنةٌ تلازمُ الشّاعر

حتّى يرتدي حرفهُ رداء القداسة

بعيدًا عن الأحاسيس الجارفة

للإنسان بعيدًا عن آدميته ...

...

 

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...