عبداللّطيف الْبطَل
شَاعرٌ يَرْسُمُ الْكلِماتِ بقَلْبِه
...
منْ دُروبِ الِحيّ الْمُحمّدي ، بمدينة
الصّخب والْفنّ ، يخْرُجُ الرّجُلُ ، حامِلاً على الظّلامِ ، شاهِراً في يُمْناهُ رِيشَة
، وفي الْيُسْرى يَراعاً ... يَرْسُمُ كما يَنْظِمُ ، وَ يُشاكِسُ الْأصْباغ كمَا يُداعِبُ
الْحروف . فِي قَلْبِه سَوْرَةٌ دافِئةٌ تَسِيلُ عَبَقاً في ثَنايَا زَجلِيّاتِهِ الْواقِفَة
على كَفّتَيْ مِيزان ، حيْثُ تتَأرْجحُ بِذكاءٍ نَوْعيّ وَجمَالٍ طَوْعيّ تِيمَتا الْحلم
والْواقع ، مَشْدُودَتَيْنِ شَدّاً رَقيقاً إلى خَيْطِ الْحِكْمَة ... وَ هُوَ الْخَيط
الّذي لا تُرْسِلُهُ كفّ الشّاعِر إلّا عامِراً بالخيْرِ مُفْعَماً بالضّوء .
ولا غَرْوَ أنْ كانَ الشّاعرُ يَلْتقِطُ
الْكَلامَ بِظِلالٍ ، فَهُو التّشْكيليّ العَبِقُ بلعْبَة الضّوء والظّل ... منْ ثمّةَ
تُطِلّ علَيْنا قَصائِده لَوْحاتٍ فَنّية تتكَلّمُ قَبْلَ أنْ نَسْتَنْطقَها ، وَ تَحْجُمُ
عنِ الاِنْصِياعِ كُلّما نالَتْ أيْدينَا بَعْضَ الْمعْنى فيهَا ... هِيَ التّشْكِيلُ
اللّغويّ الْمُتَمَلّصُ عَلى الْقَبْضِ لأنّهُ لا يَمْتَحُ الصّدَف من السّاحلِ وإنّما
منْ غَورِ الْبحر
.
اِخْتَرْتُ بَعْدَ لأْيٍ زَجَلِيّة من بُسْتان
، وقُلْتُ بعْدَ لأْيٍ لأنّني وجَدْتُ اخْتِياراتِي في وَرْطَةٍ عزْلِ الْجمِيلِ عَنِ
الْجَميلِ في الْجمِيل ، وهُوَ ما ذَكّرَنِي بالْعِبارَة الْفَرَنْسِية الْمَسْكوكَة " la presence
des biens … nuit " مِمّا جَعَلَنِي أُطارِدُ الْغَزالاتِ لِتَفِرّ
منْ قَبْضتِيَ الْأرْيَامُ ، حتّى غافَلْتُ إحْداهُنّ في خِدْرِها تَرْنُو إليّ بِعيْنٍ
حَذِرة ألّا أقْترِبَ كَثيراً ... وفَعلْتُ
هِيَ ، بعنْوان " هَضْرَة و اقْوالْ
" ... وَتُفِيدُ هذهِ الْعتَبَة الْجامِعَة بينَ الثّأنِيثِ والْجمْع دَلالَة
التّراكُم الْخاوِي ، منْبَعُها ذلِك الْعَقْدُ الضّمْني بينَ الْمُبدِعِ والْمُتلَقّي
، تحْكُمُهُ ثَقافَةُ الْمُشْتَرَك الشّعْبِي والّذي يَبْداُ طَرَفُه الْأوّل عنْد
الْمُتكلّم وَ ينْتَهِي الثّاني عنْد الْمسْتمِع ، في اتّفاقٍ تِلْقائي تَبْنِيهِ سينَارْيُوهات
الْتّوقع ... فلَفْظة " هَضْرَة "
- لا تُحِيلُ هنا على الْمَدْلول الْمُعجَمي
المُقيم في الْقاموس ، والْمُرتبط بِفيزِياء التّلَفّظ ، وإنّما تُحِيلُ على بُعْدَيْن
، واحِدٌ كَمّي يَمجّ الْكثْرَة ، وثانٍ نوْعِي يرْتَبْطُ بمعْنى الْهدْر ، أي السّاقِط
والْباطِل ... لِتُصْبِحَ الدّلالَة غَنيّة بحُمولات تَداوُلِيّة دلالِيّة
- يُؤكدُ ذلِك ، إرْدافُ الشّاعر لفْظة
" اقْوالْ " ويُعَزّزُ قراءَتنا كمّاً وكيْفاً ، إضافَةً إلى بُعْد الْمَجْهول
النّاطق ... كلامُ منْ ؟ و أقوالُ منْ ؟ ... لِيجِدَ الْقارئ ذاتَهُ أمامَ مصْدَر الْقولِ
الْعائِمِ الْمُشَتّتِ دَمُهُ بين مُتكلّمِينَ عَديدين ، ولِتَضيعَ معهُ إمْكانِيةُ الْإنْساب ، ولِنَضطَرّ إلى الاِحْتِماء بالذّاكِرة
الْجمْعِية الّتي تتَحَمّلُ مَسْؤولِيّة ال " هضْرَة ؤُ لقْوالْ " ...
فَماذا قالُوا ؟ لا يُجِيبُ الشّاعِرُ عنْ
هذا السّؤال ، بلْ يَصْنَعُ منْ ذاتِهِ مُخاطباً ، يُجَرّدُهُ منْ عباءَتِهِ لِيَقْرَعَ
سَمْعهُ بالسّؤال التّالِي { اتّ باشْ فَادْنا لكْلامْ } في انْثِيالٍ اسْتِنْكارِيّ
يَعْدِمُ مَقولَةَ النّفْع ويُحْيِي مَقُولَة الْعدَم ... وَ تَقْرِيرٍ سَاخِر { يا
اللّي امْخاوِينِي بْ لْهَضْرَة } في اسْتِنكارٍ لِآصِرَةٍ خاوِية هي { لهضْرَة } لِبَدِيلٍ
مُغَيّب هو { لْعَتْرَة } النّسْلُ والرّهْطُ والْعَشيرَة ، وهيَ ما يُمْلِي على الْعلاقاتِ
نوْعاً من الاِلْتزام { ياكْ احْنا جوجْ اتْوامْ – راضْعِينْ منْ دِيكْ لْعتْرَة }
تذْكيرٌ واخِزٌ للمُخاطب الّذي يكاد يَنْسى ما تُمْلِيه الْقرابَة من واجب
قَدَرُ التّيهِ والضّياع هو ما انْرَسَمَ
للذّواتِ وهيَ لا تَسْلُكُ السّلوكَ الْقَويم ، وعلاماتُ التّيهِ تَنْسُجها الزّجليّةُ
تباعاً في نَفَسٍ مُتسارِع ، تَشِي بِمَغَبّةِ نُكران الْعشير :{ اتْبعْنا
طْريقْ قفْرَة – اخْطِينا فْ لْميزانْ – خسْراتْ النّظرَة – لعْقَلْ ولّى حفْيانْ
– انْبتْ الشّوكْ فْ لْكٌدْرَة } تِيهٌ على مسْتَوياتٍ مخْتَلِفة تَطالُ الْجسَد والرّوح
والرّؤية ... فالطّريق مُقفِرة ، والرّؤية ضبابية ، والْعقلُ مُعطّل ، والطّعامُ فاسِد
... والنّتيجة عجْزٌ تامّ عن امْتِلاكِ رؤية واضِحة لقِياسِ الْأشْياء .
تَعودُ اللّازِمَةُ شاهِرةً قَسْوتها {
اتّ باشْ فَادْنا لكْلامْ ؟ } وتعُودُ أكْثَرَ إِيلاماً وفتْكا ، عبْرَ آلِياتِ السّؤالِ
الْمُرْبِكِ الّذي يَضعُ الذّاتَ وَ الذّاتَ الْمُجرّدة في قفَصِ الاِتّهام { فِينْ
ادْرازْ لْبِيتْ - فينْ لمُغْزلْ و لْقرْشالْ – اللّوحة و لْكَرّاكْ و الصّلْصالْ
... } أيْنَ ذهبَ هذا الْألقُ الْماضَويّ الّذي كانَ يعْبَقُ بالْمعْنى وكانَ يَلُمّ
الشّمْلَ والشّتات ، ويَهَبُ الْأشْياءَ قُدْرَتها على السّحْرِ ولو كانتْ بَسيطة
... ؟
إزاءَ هذا الْقَحط في الذأكِرَة الّتي قَتَلَتْها
" لْهضْرَة " وصَلَبَتْها " لقْوالْ " لا تَمْلِكُ الذّاتُ إلّا
أنْ تَلْعَبَ لُعْبَةً مزْدوجَة ، أنْ تُمارِسَ الْحُلُم والحَمَق { داوِيتْ بْ لحلْمْ
ؤُ بْرِيتْ – لْكٌيتْ راحْتِي فْ لهْبَالْ } ما دامتِ الذاتُ لمْ تَجدْ في الذّات غيْرَ
ال " هَضْرَة و لقْوالْ " ... الْبَديلُ إذَنْ هو ممارَسَة بَعْضِ الْجُنون
مادامَ العقْلُ قد اسْتَقال ... وبَعْض الْحلم مادامَ الْواقِعُ قد مال
يبْقى النّص في تشَكّلِه اسْتِعارَةً كبْرى
هي واقعٌ متشَظي وحلُمٌ يمْتَحُ من الْحَمق ، تتناسَلُ عنها اسْتعاراتٌ صغْرى أشَدّ
فَتْكاً ، تُكمّلُ الصّورَة في اتّجاهِ الْمُساءَلَة الْغَنيّة ، تُغْنيها رؤيَةٌ فنيّة
واضحَة لرِسالَة الزّجل ، ولغة بعيدة عن الْخطاب الْيومي ، تغْرِفُ من تراب الْبادية
وتشْرَئبّ بعُنُقها سامِقةً تَعلو ولا يُعْلى عليْها
هذا شيْء من الْكبير عبداللطيف البطل ،
خيْطٌ رقيقٌ منْ حبْله الْمتينِ عنْدي في هذه الْجلسَة ، وبقيّة الْقوّة عندهُ في قَلْبِه
وعيْنِه ، نَثَر بَعْضاً منها في كتاب " جبان كل ؤ بان
...
بقلم :
نورالدين حنيف