الخميس، 7 سبتمبر 2017

مقاربة تحليلية في زجلية للشاعر " عبداللطيف البطل "


عبداللّطيف الْبطَل
شَاعرٌ يَرْسُمُ الْكلِماتِ بقَلْبِه
...
منْ دُروبِ الِحيّ الْمُحمّدي ، بمدينة الصّخب والْفنّ ، يخْرُجُ الرّجُلُ ، حامِلاً على الظّلامِ ، شاهِراً في يُمْناهُ رِيشَة ، وفي الْيُسْرى يَراعاً ... يَرْسُمُ كما يَنْظِمُ ، وَ يُشاكِسُ الْأصْباغ كمَا يُداعِبُ الْحروف . فِي قَلْبِه سَوْرَةٌ دافِئةٌ تَسِيلُ عَبَقاً في ثَنايَا زَجلِيّاتِهِ الْواقِفَة على كَفّتَيْ مِيزان ، حيْثُ تتَأرْجحُ بِذكاءٍ نَوْعيّ وَجمَالٍ طَوْعيّ تِيمَتا الْحلم والْواقع ، مَشْدُودَتَيْنِ شَدّاً رَقيقاً إلى خَيْطِ الْحِكْمَة ... وَ هُوَ الْخَيط الّذي لا تُرْسِلُهُ كفّ الشّاعِر إلّا عامِراً بالخيْرِ مُفْعَماً بالضّوء .

ولا غَرْوَ أنْ كانَ الشّاعرُ يَلْتقِطُ الْكَلامَ بِظِلالٍ ، فَهُو التّشْكيليّ العَبِقُ بلعْبَة الضّوء والظّل ... منْ ثمّةَ تُطِلّ علَيْنا قَصائِده لَوْحاتٍ فَنّية تتكَلّمُ قَبْلَ أنْ نَسْتَنْطقَها ، وَ تَحْجُمُ عنِ الاِنْصِياعِ كُلّما نالَتْ أيْدينَا بَعْضَ الْمعْنى فيهَا ... هِيَ التّشْكِيلُ اللّغويّ الْمُتَمَلّصُ عَلى الْقَبْضِ لأنّهُ لا يَمْتَحُ الصّدَف من السّاحلِ وإنّما منْ غَورِ الْبحر .

اِخْتَرْتُ بَعْدَ لأْيٍ زَجَلِيّة من بُسْتان ، وقُلْتُ بعْدَ لأْيٍ لأنّني وجَدْتُ اخْتِياراتِي في وَرْطَةٍ عزْلِ الْجمِيلِ عَنِ الْجَميلِ في الْجمِيل ، وهُوَ ما ذَكّرَنِي بالْعِبارَة الْفَرَنْسِية الْمَسْكوكَة " la presence des biens … nuit  " مِمّا جَعَلَنِي أُطارِدُ الْغَزالاتِ لِتَفِرّ منْ قَبْضتِيَ الْأرْيَامُ ، حتّى غافَلْتُ إحْداهُنّ في خِدْرِها تَرْنُو إليّ بِعيْنٍ حَذِرة ألّا أقْترِبَ كَثيراً ... وفَعلْتُ

هِيَ ، بعنْوان " هَضْرَة و اقْوالْ " ... وَتُفِيدُ هذهِ الْعتَبَة الْجامِعَة بينَ الثّأنِيثِ والْجمْع دَلالَة التّراكُم الْخاوِي ، منْبَعُها ذلِك الْعَقْدُ الضّمْني بينَ الْمُبدِعِ والْمُتلَقّي ، تحْكُمُهُ ثَقافَةُ الْمُشْتَرَك الشّعْبِي والّذي يَبْداُ طَرَفُه الْأوّل عنْد الْمُتكلّم وَ ينْتَهِي الثّاني عنْد الْمسْتمِع ، في اتّفاقٍ تِلْقائي تَبْنِيهِ سينَارْيُوهات الْتّوقع ... فلَفْظة " هَضْرَة "
-        لا تُحِيلُ هنا على الْمَدْلول الْمُعجَمي المُقيم في الْقاموس ، والْمُرتبط بِفيزِياء التّلَفّظ ، وإنّما تُحِيلُ على بُعْدَيْن ، واحِدٌ كَمّي يَمجّ الْكثْرَة ، وثانٍ نوْعِي يرْتَبْطُ بمعْنى الْهدْر ، أي السّاقِط والْباطِل ... لِتُصْبِحَ الدّلالَة غَنيّة بحُمولات تَداوُلِيّة دلالِيّة
-        يُؤكدُ ذلِك ، إرْدافُ الشّاعر لفْظة " اقْوالْ " ويُعَزّزُ قراءَتنا كمّاً وكيْفاً ، إضافَةً إلى بُعْد الْمَجْهول النّاطق ... كلامُ منْ ؟ و أقوالُ منْ ؟ ... لِيجِدَ الْقارئ ذاتَهُ أمامَ مصْدَر الْقولِ الْعائِمِ الْمُشَتّتِ دَمُهُ بين مُتكلّمِينَ عَديدين ، ولِتَضيعَ معهُ إمْكانِيةُ  الْإنْساب ، ولِنَضطَرّ إلى الاِحْتِماء بالذّاكِرة الْجمْعِية الّتي تتَحَمّلُ مَسْؤولِيّة ال " هضْرَة ؤُ لقْوالْ " ...

فَماذا قالُوا ؟ لا يُجِيبُ الشّاعِرُ عنْ هذا السّؤال ، بلْ يَصْنَعُ منْ ذاتِهِ مُخاطباً ، يُجَرّدُهُ منْ عباءَتِهِ لِيَقْرَعَ سَمْعهُ بالسّؤال التّالِي { اتّ باشْ فَادْنا لكْلامْ } في انْثِيالٍ اسْتِنْكارِيّ يَعْدِمُ مَقولَةَ النّفْع ويُحْيِي مَقُولَة الْعدَم ... وَ تَقْرِيرٍ سَاخِر { يا اللّي امْخاوِينِي بْ لْهَضْرَة } في اسْتِنكارٍ لِآصِرَةٍ خاوِية هي { لهضْرَة } لِبَدِيلٍ مُغَيّب هو { لْعَتْرَة } النّسْلُ والرّهْطُ والْعَشيرَة ، وهيَ ما يُمْلِي على الْعلاقاتِ نوْعاً من الاِلْتزام { ياكْ احْنا جوجْ اتْوامْ – راضْعِينْ منْ دِيكْ لْعتْرَة } تذْكيرٌ واخِزٌ للمُخاطب الّذي يكاد يَنْسى ما تُمْلِيه الْقرابَة من واجب

قَدَرُ التّيهِ والضّياع هو ما انْرَسَمَ للذّواتِ وهيَ لا تَسْلُكُ السّلوكَ الْقَويم ، وعلاماتُ التّيهِ تَنْسُجها الزّجليّةُ تباعاً في نَفَسٍ مُتسارِع ، تَشِي بِمَغَبّةِ نُكران الْعشير :{ اتْبعْنا طْريقْ قفْرَة – اخْطِينا فْ لْميزانْ – خسْراتْ النّظرَة – لعْقَلْ ولّى حفْيانْ – انْبتْ الشّوكْ فْ لْكٌدْرَة } تِيهٌ على مسْتَوياتٍ مخْتَلِفة تَطالُ الْجسَد والرّوح والرّؤية ... فالطّريق مُقفِرة ، والرّؤية ضبابية ، والْعقلُ مُعطّل ، والطّعامُ فاسِد ... والنّتيجة عجْزٌ تامّ عن امْتِلاكِ رؤية واضِحة لقِياسِ الْأشْياء .

تَعودُ اللّازِمَةُ شاهِرةً قَسْوتها { اتّ باشْ فَادْنا لكْلامْ ؟ } وتعُودُ أكْثَرَ إِيلاماً وفتْكا ، عبْرَ آلِياتِ السّؤالِ الْمُرْبِكِ الّذي يَضعُ الذّاتَ وَ الذّاتَ الْمُجرّدة في قفَصِ الاِتّهام { فِينْ ادْرازْ لْبِيتْ - فينْ لمُغْزلْ و لْقرْشالْ – اللّوحة و لْكَرّاكْ و الصّلْصالْ ... } أيْنَ ذهبَ هذا الْألقُ الْماضَويّ الّذي كانَ يعْبَقُ بالْمعْنى وكانَ يَلُمّ الشّمْلَ والشّتات ، ويَهَبُ الْأشْياءَ قُدْرَتها على السّحْرِ ولو كانتْ بَسيطة ... ؟

إزاءَ هذا الْقَحط في الذأكِرَة الّتي قَتَلَتْها " لْهضْرَة " وصَلَبَتْها " لقْوالْ " لا تَمْلِكُ الذّاتُ إلّا أنْ تَلْعَبَ لُعْبَةً مزْدوجَة ، أنْ تُمارِسَ الْحُلُم والحَمَق { داوِيتْ بْ لحلْمْ ؤُ بْرِيتْ – لْكٌيتْ راحْتِي فْ لهْبَالْ } ما دامتِ الذاتُ لمْ تَجدْ في الذّات غيْرَ ال " هَضْرَة و لقْوالْ " ... الْبَديلُ إذَنْ هو ممارَسَة بَعْضِ الْجُنون مادامَ العقْلُ قد اسْتَقال ... وبَعْض الْحلم مادامَ الْواقِعُ قد مال

يبْقى النّص في تشَكّلِه اسْتِعارَةً كبْرى هي واقعٌ متشَظي وحلُمٌ يمْتَحُ من الْحَمق ، تتناسَلُ عنها اسْتعاراتٌ صغْرى أشَدّ فَتْكاً ، تُكمّلُ الصّورَة في اتّجاهِ الْمُساءَلَة الْغَنيّة ، تُغْنيها رؤيَةٌ فنيّة واضحَة لرِسالَة الزّجل ، ولغة بعيدة عن الْخطاب الْيومي ، تغْرِفُ من تراب الْبادية وتشْرَئبّ بعُنُقها سامِقةً تَعلو ولا يُعْلى عليْها
       
هذا شيْء من الْكبير عبداللطيف البطل ، خيْطٌ رقيقٌ منْ حبْله الْمتينِ عنْدي في هذه الْجلسَة ، وبقيّة الْقوّة عندهُ في قَلْبِه وعيْنِه ، نَثَر بَعْضاً منها في كتاب " جبان كل ؤ بان
...

                                  بقلم : نورالدين حنيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...