الجمعة، 16 فبراير 2018

قراءة في نسَقِ الْقسْوَة مع الشّاعِر " عبدالله التّْوِيسْ "



















قراءة في نسَقِ الْقسْوَة مع الشّاعِر " عبدالله التّْوِيسْ "


...
          
 سؤال الذّات ، سؤال الْهُو ، سؤال الكيْنونة ... هو ذاكَ الشعْرُ في صرخة ساكِتة ، عبر قصيدِ الزجل ، المتوسّلِ لُغَة البوحِ السّائر بينَ النّاس أُلْفَة ، والْمتعالِي على النّاسِ فنّا ... والتّعالِي هُنا ليْسَ مقاميا يكرّسُ طبقيّةَ القراءَة ، إنّه تعالٍ سديمي ، يخْتَرِمُ نظرَة الدّهماءِ لشعْرِ الزّجَلِ عَلى أنّهُ شعرٌ دارِجٌ وَ بسيطٌ وَ مُتَنَاوَلٌ ... لِيسْمُوَ بِفنّ التّعْبيرِ إلى سماواتِ الْإبداعِ ، في رؤيةٍ فنيّةٍ ، ترقى بالذائِقَة ، وتصعدُ بها إلى آفاقَ ، غيرِ محسُوبةِ الطّيران ، في تحْليقٍ هادِفٍ لا يرْضى إلّا بالْعلياءِ فضاءً وَعْراً لِعومِ النّسورِ ، تارِكاً زحْمَة الْفضاءاتِ الْمُمكِنَة لِبُغاتِ الطّيُور .

تطرَح الْقصيدَة سؤالاً حارِقا " شْكونْ تْكونْ " يُزعْزِعُ ارْتِخاءَ الْإنسانِ لوجودِهِ الْفيزيائِيّ ، كما يُزعزعُ ثقَتَهُ بِذاتِه الصّغيرة ، الْواهِمَة ، والْكبيرَة بمرايا مُحَدّبَة ، تظْهِرُ لَهُ صورَة الْقطّ سبُعا هزَبِرا ، فيما هو حبّةُ خردلٍ ضئِيلَة في فسْحة الوجود الْرحْبَة والواسِعَة " و نْتا غِيرْ سْمِيّة مرْفودَة منْ كْنانشْ لْموتْ "

الصورَة هنا ، في غايَةِ السّخرية السّوداء ، تبني ذاتَها من فنّ التّوتّر والمسَافَة ، عبر تضادّ غير مرئِي ... فنحنُ عادةً ما نتمثّلُ كنانيش الحالة المدنية كنانيش حياة ، لا كنانيشَ موت ، كما ذهبَتْ إلى ذلكَ القصيدةُ مذهبا قويّا مقصوداً ... يزِيدُ من عَبَثِها تصْويرُ الشّاعِرِ للَحظَة الْبدْءِ ، والْموسومِ أيضاً بالسّخرِية المتكلّمَة والطّافِحَة بالْأسئِلَة ، وَ هي لَحْظَةُ انْتِشاءٍ مائِيّة يشهَدُ على حمْقِها لَيْلٌ أحمقُ ، وَ على دونِيتِها ، ليْلٌ أدْنى ، وَ على عُرْيِها ، حبّ عارٍ من كلّ شيء ... هكذا خرجْنا من قصيدة الشاعِرِ ومن رؤْياهُ ... فَما نحْنُ إلّا أسماء عارِية وافِدة من دفاتِرِ الشّهوة إلى كنانِيشِ الْموت ... " تْلَقْمَتْ مّيْهَة منْ هْبالْ اللّيلْ " .

فَكيفَ يبنِي الشاعِرُ " عبدالله التويس " أنْساقَهُ الْقولِية في هذا الْبوحٍ الْجميل ؟

إنّهُ يَبْنِيها عَبْرَ مجْموعَة منَ الْآلِيات ، نذْكُرُ منْها على سَبيلِ الْاِسْتِئناسِ :

1 - آليةُ السّؤال : عادَةً ما يَنْطَوِي السّؤالُ على انْتِظارِ الْإجابَة وَ توَقّعِ الرّدّ ، في نسَقِ التّواصُلِ الْآليّ بينَ متَخاطِبيْنِ ... لكِنّهُ في هذِه الْقَصِيدَة سُؤالٌ اِنْزِيّاحيٌّ كاشِفٌ وَ مُعَرٍّ لِأوْراقِ التُّوتِ الْعالِقَة بِحَقِيقَة هذا الْمدعُو إنْساناً { شنّو تْكونْ ؟ } ... تأْتِي النّتيجَةُ تِباعاً كَإضاءَة نوْعِيّة لِمُسْتَغْلَقِ الْخِطابِ الزّجَليّ عنْدَ شاعِرٍ تَمَرّسَ على فِعْلِ الْقَولِ ، لا منْ بابِ التّكْرارِ الْأجوفِ ، وَ إنّما منْ بَوّابَةِ الْإبْداعِ الْمُتجدّدِ دوْماً والْمُعانِقِ لِعُنْصُرِ الدّهْشَة كَرِهانٍ فنّي رُؤْيَوِيّ يَمْتَحُ نَسْغَهُ منْ مِصْداقِيّةِ القَفْزِ عَلى الْبَداهَة الْمَقِيتَة ...
تأتِي النّتيجَةُ إضاءَةً نوْعِيّة لِعالَمِ الشّاعِرِ الْموْسُومِ بِالرّغْبَة في الْمعْرِفَة ... ولا أقولُ الْمَعْرِفَة الْعالِمَة ، و إنّما الْمعْرِفَة الْحالِمَة بالْقَبْضِ عَلى شيْءٍ منْ طَبِيعَة هذا الْكائنِ الْمجْهُول { وْ نْتا غِيرْ سْمِيّة } ... وهذا ليْسَ جواباً منْطِقيّاً لِسؤالٍ غيْرِ منْطقيّ ، إنّهُ في عُمْقِ النّظَرِ تشْرِيحٌ لِمُغالَطَة وُجودِيّة قدْ تبْنِيها أحْكامٌ صِبْيانِيّةٌ تُؤلّهُ هذا الْمدْعُو إنْساناً وَ ترْقَى بِهِ فوقَ مقامِهِ الْصّلْصال ، وَ هُوَ الْتّرابُ الْقَادِمُ منْ كَنانِيشِ الْموتِ ...
وَ فوْقَ هذا ، هُوَ سُؤالٌ  مُؤطّرٌ لِسَيْرورَة القولِ بينَ دَفّتيْنِ : الْأولى مفْتُوحَة على الْآخر { شنّو تْكونْ ؟ } ... وَ الثّانِيّة مفْتُوحَة على الْأنا { شنّو نْكونْ أنايَا ؟ } ... وَ بيْنَ الْقُطْبيْنِ تتداخَلُ الْأنواتُ في ذاتٍ واحِدَة معَ اخْتِلافٍ في التّجلّي ، ذلكَ أنّ الشّاعِر اخْتارَ للنّشْأة حاضِناً وَرقِيّاً { كنانيش } فيما اخْتارَ لحالَة الْاسْتِواء حاضِناً نوْعِيّاً هوَ { الْأرض } وَ في ذلكَ حمُولاتٌ دلالِيّةٌ عامِرَة بالْاِحْتِمالاتِ وَ غَنِيّةٌ بِالتّأوِيلات ، وَ حسْبُنا منْها قَوْلُنا إنّ الشّاعِرَ يرُومُ تحْقِيقَ نوْعٍ منَ الْاِنْسِجامِ الّذي ظاهِرُهُ تشَعُّبٌ واخْتِلاف وَ باطِنُهُ تنَاغُم ... والْانْسِجامُ نؤوّلُهُ بِرَغْبَةٍ قويّةٍ فِي جعْلِ الْأرْضِ مُجَرّدَ كُنّاشٍ علَيْهِ سَطْرٌ باهِتٌ هُوَ الْإنْسانُ ... منْ هُنا قَسْوَةُ الاِسْتِعارَة .

2- الْاِسْتِعاراتُ الْقاسِيّةُ : وَنَقْصِدُ بِها كلّ تعْبِيرٍ فنّيّ يتَوسّلُ الْبِناء الْاسْتِعاريّ الطّافِحِ بالْحُمولَةِ الْمُفارِقَة ، بحْثاً عنْ شَكْلٍ مُفْرَدٍ و متفَرّد لمَا يُسَمّى بالصّورَة الشّعرِيّة ... فَيذْهبُ " أبوفيروز عبدالله التّْوِيس " مذْهَبَ صِناعَة الْدّهْشَة السّاخِرَة عبْرَ اخْتِرامِ الْمألُوفِ الْعابِرِ ذائِقَتَنَا بِمَجاذِيفَ منْ بُخار ... أولى هذه الاِسْتعارات قولُهُ { كنانيش الموتْ } ... تبْدو السّخْرِيّةُ السّوداء واضِحَة في اللّعبِ على الانْطِباعِ وعلى التّمَثّل الشّعْبِي لطُقوسِ تسْجِيلِ الْمولودِ في دفاتِرِ الْحالَة الْمَدنيّة الْمفْعَمَة بالْفرْحَة وَ الْحبُور ... فِيما تُؤرّخُ الْقَصِيدَة اسْمَ هذا الْمولودِ في دفاتِرِ الْموتِ ، وتخْتَزِلُ فِي قَسْوةٍ بائِنَة كلّ ذلِكَ الْعُمُر الْعامِرِ بالْحَرَكَة والصّراخ الْبَلِيدَيْنِ ... لِيُعْلِنَ الشّاعِرُ وفِي منْطَقَة مجْهُولَة تُقِيمُ بيْنَ الْوعْيِ وَ اللّاوعْيِ ، أنّ الْموتَ قاعِدَة وَ الْحياةَ اسْتِثْناء .
ثانِي هذه التّجليّات الْقاسِيّة قولُهُ { زْرورة من دْموع لْ عْياط } ، الهدِيّة الطّقْسِيّة المقدّمَة لِأهْلِ الْمولود عادَة ما تُسْتقْبَلُ بالْفَرح ، و قدْ تكونُ نَقْداً ، وَ قدْ تكونُ عَيْناً ... لكِنّها في هذا السّياق هِيَ دُموعٌ و بُكاء . هذا المكوّنُ السّائِلُ ينْسَجِمُ أشَدّ الاِنْسِجام مع توجّه الْقَصيدَة الْبانِية نسَقَها على متُونِ القسْوة السّاخِرَة ، وَ على السّخْرِية الْقَاسِيّة ... إمْعاناً في جلْدِ هذا الْكائن الْغرّ الْمؤمِن ببلادة نوعيّة بالدّنْيا ومُغْرَياتِها . يُزَكّي هذا التّخْرِيجَ حُضُورُ الْغَيْمَة بِقَلْبِها الْمُرْهف { ولغيمة ڭلبها رْطب تزكي دْموعْها } .
ثالِثُ هذه الْقسْوَة الْمقْصُودَة قولُهُ { ولْ أرض مزال مْركباني وظهر ل يّامْ حْدورة } ... تَصَوّروا معِي قدْرةَ الْبوحِ على اسْتِنْطاقِ الصّورَة لا في حسّيّتِها الْمألُوفَة عبْرَ أدواتِ تشْخِيص الْمُجرّد وَ تجْرِيد الْمُشَخّص  ، وَ إنّما في قُدرتِها على اللّعِبِ بحُمولَةِ التّشْيِيئ { la chosification } عبْرَ تحْوِيلِ الْماهِيات فِي انْسِيابِيّة قاسِيّة لا تَني تقْهَرُ السّمْعَ وَ تجْلِده ... الْأرضُ أمّ تحْمِلُ الْمولودَ على ظهْرِها ، وَ الْأيّامُ طرِيقٌ منْحَدِرَة مجهُولَة النّهايَات .

هذا فيْضٌ من غَيْضٍ في عرْسِ الْكلِمات مع شاعِرٍ يَقِيسُ حرْفَهُ قِياسَ منْ يَكْتُبُ للتّارِيخِ قبْلَ أنْ يكْتُبَ لِذاتِه ... أحيّيكَ أخي عبدالله وَ اعْذُرْنِي إن انْفلَتَ يراعِي في غَيْرِ الْاِتّجاهِ الْمُعاكِس ... فأنا إنْ لمْ أشاكِسْ لا أكْتُب ...
...
بِقلم : نورالدّين حنيف
...
أنظر النّصّ :

شنو تْكون
ونْت غير سْمية
مرفودة من كنانش لموت
تْلقْمت مّيْها من هْبالْ الليل
كان حبها حارْ
وكانت حْياة هْديةْ
ولدت لحب عريان
وبْقات السّتْرة وزت
يتناتفو عليه لخوت
بْكات لموت
على قْتيلتْ لحب
وتْعشا تْراب بالدم
حتى فڭسْ رْحام الدم
زْرورة من دْموع ل عْياط
وركبت لفرحة ع لبْكا
ؤ كلشي سْكت ع لقتيلة
مزال الشمش تْسخن ل بْحر
يتْبخَّر الدم من عْماقو
يرمي عارو عْلَى سْما
ولغيمة ڭلبها رْطب
تزكي دْموعها
فرْحة لْ جّايّات
وبْقيت رْهينة ل الشبكة
ولَمْساولة نشرت خزها
على حنْكْ اسهو
بْقى مْكاني بلا عتبة
وزْمان بير مالح ماه
لعتْرة ولدت عترات
ومشات
لحلمة على جناح الطير
تبابي فين تبات
مشا معاها
حْتيت جدّي
وبقات سْميتو
تتْلاوط بين حْفادو
ؤ كلها سَدْ عليه ل باب
بقاتْ لْ عين مْلاطمة
مع كذوب سْراب
و لحْلاوة جْدر
سايحْ ف ظلام تْراب
يْبلّلْ الظل من تنهيدة دْواية
تسرحْ ل حْروف
فْتاويها مع نْجوم الليل
تطوي لكنانش
تمْحي صدْر اللوح
 وتبقى لعادة الشهرية
شاهدة ع لْحب ل بكري
ولما يْجري
بلا وديان

شنو
نكون انايا
ولْ أرض مزال مْركباني
وظهر ل يّامْ حْدورة
يْكركبني فرحة بلا رْبيعْ
ولقصيدة

بلا شْوار سايڭاني --- عبدالله التويس
...
بقلم نورالدين حنيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

  من السؤال إلى التسليم في ديوان ( اخْيُوطْ الْڭمْرَة ) للزجال المبدع عبدالحكيم خيي -         تمهيد : في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف...