دَهْشَةُ الْأصْفَر
قِراءَةٌ في لَوْحَة للفنان التشكيلي
المغربي
" نورالدين برّحمة "
بقلم : نورالدين حنيف
...
عَرفتُ الفاضِلَ " نورالدّين برّحمة
" شاعِراً يمْسِكُ بينَ أنامِلِهِ عَجبا ، يَخْتَرِمُ صفاءَ الْحرفِ بمُشاكَساتٍ
بَليغَة . وعرَفْتُهُ رَسّاما تَشْكِيلِيّاً ، يعْجِنُ بِريشاتِهِ مَعْنى الدّهْشَة .
منْ هُنا ، نَبَعَ " ألْأكواريل
" ببساطةِ انْسيابِه الْمائعِ الْماتِعِ ، يفْرِضُ على الذّات لُغَتَه ... في
خِطابِ " السّيميتْرِيّة " الّذي يقْسِمُ ظَهْرَ التّشْكِيلِ عالَمين : واحدٌ
أعْلى يُؤرّخُ التّعدّدَ الْماتِحَ مادّتَهُ منْ فَوْضى الْألْوان ، والثّانِي أسْفل
، يَتَشكّلُ عالَما موْسُوما بِوهْمِ الاِنْتِظامِ ، في عَبَثِيّةٍ تَشِي بالْإيهامِ
وتَفْضَحُ سَلْبِيةَ التّسطّح ، إيذاناً بتوغّلِ الْعالَمِ الْجمالِيّ عند الْوارِفِ
" نورالدّين " داخِلَ أيْقوناتٍ مُتمَرّدَة ، تُرحّبُ بالْحرَكِيّة وَ تلْعَنُ
السّكون
.
هكذا أتمَثّلُ عالَمَ هذه اللّوحَة ، اخْتِراقاً
لْسُلْطَة الْألوانِ التّقْلِيديّة ، فتْحاً جدِيداً لنَصاعَة الْأصْفَرِ الْمُلغِزِ
الْمُلْغِمِ الْمُكَسّرِ لتوقّعاتِ الْمُشاهِدِ ، سواء أكانَ مُبْتَدِئاً في عِشْقِ
الْأصباغِ أمْ كانَ خَبِيراً بماهِيّاتِ التّشْكيلِ ...
وأتَمثّلُهُ عالَماً لا يَفْرِضُ على الرّائي
منْظومَةً جاهِزة بَلِيدَة تحْكِي معَهُ نَشيداً مُسْتَهْلكا ، وإنّما تُشَيّدُ نَفْسَها
تَشْييداً فِينِيقيا كُلّما تَغيّرَ وجْهُ الرّائي الْقارئ ، وكلّما تغَيّرتْ زاوِيةُ
نظَره
.
الْأصْفَرُ سَيّدُ الْموْقِفِ في غَيْرِ
تَسَلّط ، أخْرَجَه الفنّانُ منْ عالَم التّصنِيفِ الْمسْكوكِ إلى عالَم اللّغة . الْأصْفرُ
انْسِيابٌ مُوَرّط ، لا يَنْبَطِحُ سائلاً مِطْواعا ، بلْ يتَملّصُ في زئْبَقيّةٍ جميلَة
حاضِنَة في أمومَة ، مُشْتَعِلَة في خُصومَة ، لا تَسْجُدُ لِلْمألُوف ولا تركعُ ...
منَ الْأصْفَرِ تتناسَلُ التّداعِياتُ في
تدرّجٍ حرَكِيّ يَفْرِضُ على بقيّةِ الْألْوانِ الْالْتِزامَ بعدَمِ مُواطأةِ النّصاعَة
كما أرادها الْأصفرُ ، إخْلاصاً لِنَسْغِ التّشاكُل الّذي يُؤطّرُ اللوْحَةَ عالَماً
ناطِقاً بِقيمَةِ التّعدّد والْاِخْتِلاف . فتأتِي الْألوانُ جميلَة في بُهُوتِها وشفافِيتِها
في غَيْرِ ادّعاء ... إنّها بِنْتُ اللّحظَة الْمُنْفَلِتَة من قبْضَةِ التّأزيمِ والدّاخِلَة
دَوائرَ الْحوارِ ، كاخْتِيارٍ من التّشْكيلي " نورالدّين " الْقابِضِ على
فلْسَفة اللوحَة بأيْدٍ من حرِير .
أما الْأزرَقُ ، فَحدّثْ ... يُمْسِك
" نورالدّين " بِتلابِيبِهِ ، وَ يقْضِمُ منْ ثقافَةِ تقْلِيدِهِ الْموْسومِ
بلُغَةِ البحرِ الْمُسْتَهْلَكَة قضْما ، لِيُطْعِمَهُ دلالاتٍ قويّة في ثنائِيّة غَرِيبَة
تُلَخّصُ كيْنونَتَنا : سماءٌ و أرضُ – فوقٌ وتحتٌ – أملٌ و واقِع – بؤرَةٌ وَ شَتات
... في ذكاءٍ يَصْنَعُ من الْأزرق الْأعلى بَصِيصا من السّماء ، وما هوَ بالسّماء ،
مُغلّفا بِألوان اخرى تلْعبُ دوْرَ الْحيْلُولَة ، ومِنَ الْأزرقِ الْأسفلِ مسْرحا
لما يُشْبِهُ الْماءَ وما هُو بالْماء ... مُدَثّرا بلغْزِ السّؤال .
قدْ أقرأ اللّوحَةَ ثانِيا ، عنْدما أغادِرُها
إلى شأني الْخاص ، فأجدها قد نَقَلتْ مُمْتلكاتِها بعيدا عن عيني الْقارِئة الْآن ،
لأنّ اللّوحةَ الّتي تُبيحُ لك ذاتَها في غيْرِ تَمَنّع ، ليسَتْ لوحَة ... إنها تسْطِيرُ
أصْباغ ... وفي عالَم الفاضل " نورالدّين " تأخذُ التّشْكيلاتُ عنْدهُ شَكْلَ
النّساءِ الْذكيّاتِ الْمالِكاتِ لِسحْرِ الفِتْنَة والْقادِراتِ على صِناعةِ الْفِتْنَة
... ولو اسْتمْررتُ قلِيلا في الْمقارَبَة ، لخرَجَتْ إليّ إحْداهُنّ تطْلُبُ منّي
أن أتسَتّرَ في تواطُؤ لَذيذ عن فتْنَتِهنّ .
أحيّيكَ أخي " نور الدّين برّحمة "
...
نون . حاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق