عَباءَةُ الْعَراء
قراءة في لوحة للفنان التشكيلي المغربي
" عبداللطيف البطل "
بقلم : نورالدين حنيف
...
يَشْتغِلُ ابْنُ مَنْطَقَتِي ، الْحيّ الْمُحَمّديّ
، الْفنّانُ ، عبدُاللّطيفِ الْبَطَل على تِيمَةِ " الْإنْسانِ " بِطرِيقَتِه
الْخاصّة ، وبِألْوانِهِ الْأكْثَرِ خُصُوصِيّة ، في تَشْكيلٍ ذَكِيٍّ ، يَشِي بامْتِلاكِ
رِيشَتِهِ لِرؤْيَة فَنّيّةٍ ، بَعِيدَة عنْ ثَقافَة الْاِرْتِجال وَ الصّدْفَة ، لِتَمْتَحَ
وُجودَهَا السّامِقَ مِنْ وَعْيٍ قَويّ بِعلاقَة الذّاتِ بالْكُسْمُوس ، فِي إطارِ
مَشْروعٍ فنّيّ تتَداخَلُ فِيهِ شَبَكَةٌ منَ الْأسْئِلَة ، أهَمّها سُؤالُ الْهُوِية .
وَ لَقَدِ اخْتارَتْنِي هَذهِ اللّوْحَةُ
لِتَصْرُخَ في وَجْهِي بِهَمْسٍ رَقِيقٍ أنْ ألْتَفِتَ إلى حجْمِ الصّراخِ الْمَشْرُوخِ
في تَلاوِينِها ، وَ بِحَجْمِ السّكُوتِ الْمُخَيّمِ عَلى كَيْنُونَةِ النّوْعِ
" الْجنْدر " بِاعْتِبارِهِ كائِناً مَنْقُوصَ الْهُوية ، تُشَيّؤُهُ ثَقافَةُ
الْفُحُولَة وَ تُبَضّعُه .
وَ عِنْدما تَكْتَسِي الْأصْباغُ عَباءَةَ
الْعراءِ ، فاعْلَمْ ، أنّها الْإدَانَةُ الصّارِخَةُ الصّادِرَةُ منْ فنّانٍ تَشْكِيلِيّ
لا يَرْسُمُ التّرَفَ الْفَنّيّ ، ولا يَعْجِنُ بِرِيشاتِهِ ثَقافَةَ الْبَذْخِ الّتِي
تَنْتَهِي صَلاحِياتُها فِي احْتِفاءِ الْمَعَارِضِ ...
تتَبدّى الْألْوانُ ذَكِيّةً في ثُنائِيّةٍ
أذْكى : مادّتها الْإنْسانُ والْمَعْرِفَة . ذلِكَ أنّ اللّوْحَةَ في قِراءَةٍ مَضْمُونِيّةٍ
مُباشِرَة ، تُقَدّمُ لَنا صُورَتَيْنِ ، الْأولَى خَلْفِيّة تُوحٍي بالْكِتابَة ،
تَدَلّ عَلَيْها خَرْبَشاتٌ عَلى دَفاتِر زرْقاء و بيْضاء و حَمْراء ... والثّانِية
تَحْتَضِنُ امْرَأتَيْنِ بِتَقاسِيمَ غَرِيبَة غرابَةَ الْعَجائِبيّ ، وَ جَسَدَيْنِ
يُكَسّرانِ مأْلُوفَنَا لِثقافَةِ الْجَسَد .
يَقْبِضُ عبدُاللّطيف الْبَطل علَى الْمَعْنى
الْمُتناسِلَ منَ الْألْوانِ بِوعْيٍ يُسائِلُ الْكيْنُونَةَ الْمُتَشَظّيّةَ في نَظْرةِ
الْمَرْأة ، الّتي فَضّلَ الْرّسّامُ التّغاضِي عنْ مُؤَشّرِ انْتِمائِها ، كأنْ يَضَعَ
علامَةً تَدُلّ عَلى تَموْقُعِها الْمَحَلّي أو الْوطَنِي أو الْإقْلِيمي ... إنّها
امْرأةٌ وَ كَفى ... في الزّمانِ الْهًيُولانِي والْمَكانِ الزّئْبَقيّ ... امْرأةٌ
صامِتَة بِفِعْلٍ خارِجَ إرادَتِها ، مَوْسُومَة بالدّونِيّةٍ منْ خلالِ انْتِكاسِ
رأسِها في خُنوع ، ونَظْرَتِها في اللاّشَيء ... امْرأةٌ عارِية ، في حالَةِ الطّبِيعَة
، في انتِظارِ أنْ يُلْبِسَها الرّجًلُ لِباسَ الثّقافَةِ الّتي يُرِيدُ هُو في نَفْيٍ
صارِخِ لِإرادَتِها وَ اخْتِياراتِها... وَهُوَ الرّجُلُ الْغائِبُ أصْباغاً ، الْحاضِرُ
أثَراً ، فِي نُدوباتٍ على الْجَسَدِ الْعاري .
ما مَعْنى أنْ يَضَعَ الْتّشْكِيلِيّ عبدُ
اللّطيف صورَةَ الْمرْأة في امْرَأتَيْنِ ؟لِهذا السّؤالِ أكْثَرُ منْ مُقارَبَة ،
أقَدّمُ الْآنَ واحِدَةً في انْتِظارِ الْمقارَباتِ الْمُمكِنَة ... وأقُولُ إنّ ازْدِواجِية
الْأيْقُونَة مَرَدّهُ لِسَيْرُورَة الْمِيراث ... وكأنّني بالْفنّان يَقْرأُ الْإشكالَ
داخِلَ الثّقافَة الشّعْبِيّة الّتي تَقولُ " اقلبْ لْبرمَة عْلى فُمْها تطْلَعْ
لبنتْ لمْها " هكَذا يتَناسَلُ الْمَعْنى منَ الْألْوانِ في أبْعادٍ إنْسانِيّة
فاضِحَة أكثر منْها شَارِحَة .
وما مَعْنى أنْ تَكونَ الْمَعْرِفَةُ خلْفَ
الْإِمْرَأتَيْن ؟ إنّهما في نظَرِ الرّجُلِ الْمَسْكُونِ بِعَطَبِ الْفُحولَة ، كائِنٌ
لا يَسْتَحقّ أن يعْرِف أو أنْ يبْدع ... ويَكْفِيهِ أنْ يَكونَ مُساقاً بِمَعْرِفَة
صَنعها الرّجل وأمْلاها في أنانيّةٍ مَقيتَة ، لِهذا ارْتأتْ حسَاسِيةُ الْفنّان أنْ
تَشْتَغِلَ كلّ الْألْوانِ عَلى فَضْحِ هذهِ الْمفارَقَة ، في أفقِ الْمُسَاءَلة عنْ
قَرارِ الْهُوية لِهذا الْكائن، الْمَنْقوص في هويتِهِ وَ مُواطَنتِه .
أدْرِكُ في كلّ انْتِقالٍ من فقرة إلى أخرى
، أنّني إزاء لَوحَة حمّالَة لِأوجُه مُتعدّدة ، فبالْإمْكانِ قراءَتُها في كتابٍ نَظراً
لحُمولاتِها الّتي تَشْبِهُ زَخّ الْمَطَر... منْ ثَمّةَ يُمْكِنُ مساءَلَة طبِيعَة
الْأزرق في تَداخُلٍ معَ الْأحمر والْأبيَض تَداخُلاً مَشْدوداً بِأسْلاك ، دلالَة
على انْتِقاصِ لُحْمَة الْمعْرِفَة مالَمْ تُشارِكْ فيها الْمرْأةُ بِنَصيب .
وبالْإمْكانِ مُسَاءَلَةُ الْجَسَدِ الْعارِي
، والْوجْه المُكَسّر لِتقاسِيم الْإنسان ، والْجيد الْمبالَغِ في طولِه ، ولا انْسِيابِية
الْذّوات ، و سُرْيالِية الشّعَر ، والظّلال الْمُحْتَشِمَة ، والضّوء الْمنْفَلِت
منْ يَمِينِ الْكائِنات الْمَوْسُومَة بالصّمْت ، وغيابِ سيمِتْرِية الْعُيون ، وَمًشاكَسة
الْأنف ، وغيْرِها من اللّقَطات الّتي اخْتارَ الرّسّامُ بِوعْيٍ فاضِح أن تكُونَ هكذا
ولا تَكونَ كما شاءَتْ ذائِقَتُنا الْمُسَطّحَة .
...
نون حاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق